في عام 2022 شهد العالم حوالي 12500 احتجاج في 148 دولة نتيجة قرارات متعلقة برفع أسعار الوقود والسلع الغذائية وبالتالي ارتفاع تكاليف المعيشة، ولم تكن هذه الاحتجاجات حكراً على الدول الفقيرة، بل انها حدثت في عدد من الدول مرتفعة الدخل مثل بريطانيا وفرنسا وغيرها.
والسبب ببساطة ان رفع أسعار الوقود يؤدي دائماً وأولاً الى المساس بالطبقات المتوسطة والفقيرة بشكل مباشر، وذلك لأن الموضوع ليس مرتبطا فقط برفع تكلفة وقود السيارات او حتى تكاليف المواصلات، ولكن اثره يمتد الى رفع تكلفة سلع وخدمات أخرى مرتبطة بشكل مباشر او غير مباشر بتكلفة الوقود، فنحن هنا نتحدث عن سلسلة انتاج يؤدي ارتفاع سعر احد مكوناتها الى ارتفاع تكلفة باقي المنتجات السلعية والخدمية بشكل تلقائي، وبالتالي ارتفاع تكاليف المعيشة، خاصة اذا لم يواكب ذلك ارتفاع في الدخل.
جاء قرار مجلس الوزراء العراقي برفع أسعار الوقود معللاً بأنه جزء من خطة واسعة لحل مشكلة الازدحامات المرورية في البلاد، وللوهلة الأولى يبدو القرار متسقاً مع تعليله، حيث لا يمكن انكار وجود ازمة اختناقات مرورية في العراق بشكل عام وبغداد بشكل خاص، ولكن من غير المنطقي ان يبدأ التوجه لحل هذه الإشكالية باتخاذ قرار برفع أسعار الوقود، وذلك لأن التعامل مع مشكلة المرور يجب ان يتم بناء على دراسة مستفيضة لأسباب المشكلة ومحاولة حلها ضمن خطة متكاملة، وليس من خلال قرارات ارتجالية ستؤدي بالتأكيد الى مضاعفات سلبية.
وإذا كانت الحكومة تتوقع ان رفع أسعار الوقود سيؤدي الى تغير في سلوك المواطنين من حيث تقليل الاعتماد على المركبات الخاصة كوسيلة رئيسية للتنقل، حيث يبلغ عدد السيارات في بغداد لوحدها ما يقارب مليونين ونصف الى ثلاثة ملايين مركبة، فعلى الحكومة ان تسأل نفسها عن البدائل المتوفرة التي يمكن ان يلجأ اليها المواطن بدلاً عن السيارة، والاجابة المنطقة هما يجب ان تكون ان البديل هو التوجه الى وسائل النقل العام، وهنا يجب ان نسأل عما اذا كان هذا البديل موجودا او جاهزا لتعويض خيار المركبات الخاصة ام لا.
الحقيقة ان واقع المواصلات العامة او النقل العام في العراق هو واقع مزر، والحديث عن توفر شبكات نقل عام فعالة وحقيقية هو نوع من الوهم غير القابل للتصديق. فمن حيث المبدأ فان بنية النقل التحتية المتكونة من الطرق وسكك الحديد وغيرها هي بنية متآكلة وضعيفة وغير قادرة في وضعها الحالي على تقديم خدمة مواصلات عامة فعالة، ناهيك عن عدم وجود نظام نقل عام حقيقي وفعال من الأساس، بل ان المحاولات التي تم بذلها في الماضي، مثل شبكة ميترو بغداد التي تم الحديث عنها في العام 2011، هي محاولات لم تكتمل وبقيت في إطار الاحلام والخطط غير المنفذة.
هذا الواقع السيء يؤكد على عدم صلاحية أو قدرة نظام النقل العام الحالي على ان يكون بديلاً لاستخدام المركبات الخاصة، وبالتالي فأن الحديث عن رفع أسعار الوقود بهدف تخفيف الازدحامات المرورية هو حديث غير واقعي على الاطلاق في ظل عدم وجود خطط فعلية وحقيقية لتطوير قطاع النقل.
أما المبرر الاخر لرفع أسعار الوقود والذي جاء على السنة عدد من الخبراء الاقتصاديين فهو أنه محاولة من الحكومة لزيادة إيرادات الدولة لمواجهة المشاكل المالية التي تمر بها، أو بكلمات أخرى فهو قرار باللجوء الى جيب المواطن لحل هذه المشكلات.
وهنا يجب ان نتوقف عند سؤال مهم، فهل استنفذت الدولة جميع الوسائل حتى تضطر الى تحميل المواطن تكلفة اصلاح الخلل المالي في الدولة، والاجابة بكل بساطة هي النفي، وهنا يمكن الحديث عن مثال واحد فقط وهو التهرب الضريبي، فوفقا لتصريحات السيد محمد شياع السوداني فان الدولة لم تتمكن من استيفاء ضريبة على ما قيمته 26 مليار من المستوردات، وبالتالي فنحن نتحدث هنا عن إيرادات للخزينة لا يتم تحصيلها لأسباب عدة، منعاً عدم فعالية النظام الضريبي ومنها أيضا الفساد والبيروقراطية، ولذا على الدولة قبل ان تلجأ الى جيب المواطن لاصلاح الخلل، فعليها ان تلجأ الى تعظيم إيراداتها من خلال سياسات مالية وضريبية فعالة.
بشكل عام فالعراقيون غير مستعدين لتحمل تكلفة اصلاح مشاكل الدولة التي لم يتسببوا بها، حيث يرى اغلب المواطنين ان العراق دولة غنية وتمتلك من الموارد ما يمكنها من تجاوز مشاكلها الاقتصادية والمالية بسهولة، الا أن الناس يرون أن الخلل يكمن أساساً في الية إدارة هذه الموارد، ويرون ان الأسباب الحقيقية لمشاكل البلاد تكمن في الفساد وسوء الإدارة ونهب المقدرات وسيطرة النخب المالية والسياسية على الموارد، وأن معالجة هذه المشاكل يكون من خلال معالجة أسبابها، وليس من خلال زيادة الأعباء على اكتاف المواطنين والمواطنات.
أياً كانت مبررات قرار الحكومة برفع أسعار الوقود فهي مبررات غير مقنعة بل وغير منطقية ولا تحقق الأهداف المفترضة، ما فعتله الحكومة ببساطة انها تركت أسباب المشكلة وتوجهت الى حل سياسهم فعليا في تعقيد المشكلة، أي ان الحكومة كما يقول المثل وضعت العربة أمام الحصان.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً