لم تحاول أحزاب السلطة الحاكمة في العراق بعد 2003 الاستفادة من تجارب الحكم السابقة التي حكمت البلد بفترات متعاقبة وأنظمة مختلفة ، وكيف كانت نهايتها بسبب السياسات الخاطئة، من ممارسة التهميش والاقصاء، الامر الذي جعل احزاب السلطة الان تستخدم سياسة الحساب المتراكم إتجاه الفواعل السياسية الممثلة لمكونات الشعب وفق معادلة خاطئة "مثلما فعلت معي يجب أن أفعل معك"، ولم تتخلَ هذه الاحزاب عن النزعة الانتقامية الانتقائية ولم تنتقل من الفقه الراديكالي إلى فقه الدولة.
حيث بقت تدور حول آلية الحكم بنمط وطيف واحد، ولم تتقبل فكرة سياسة الدولة ودستورها وتشريعاتها التي أتاحت الحكم ضمن سياسة الألوان المتعددة، لان المادة الثالثة من دستور العراق 2005 نصت على "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها، وجزء من العالم الإسلامي"، ولابد لأحزاب السلطة التي تحاول الهيمنة والسيطرة بحجة الاغلبية أنْ تراعي هذا النص بالحكم، فضلاً عن المادة (السادسة عشر) من الدستور نصت على "تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع العراقيين، وتكفل الدولة اتخاذ الاجراءات اللازمة لتحقيقها"، ولكن للأسف نجد أنَّ النصوص الدستورية ليست هي الحاكمة وانما الأمزجة السياسية هي من تحكم وفق رغبة وتوجه الفواعل السياسية، وهذا يتنافى مع قيم ومبادىء النظم الديمقراطية لأن النظام الديمقراطي لا يمكن أن يكون نظاماً للحكم ما لم يكن نظاماً للمجتمع، وإذا لم يندمج ويتماهى الناس مع الديمقراطية في حياتهم الاجتماعية فإن ذلك لن يحصل في الحياة السياسية.
الكاتب السوري جورج طرابيشي له مقولة "لا يتبدل ما في الأعيان ما لم يتبدل ما في الأذهان"، وهنا لابد من أحزاب السلطة الحاكمة ذات الأيديولوجيا الدينية أن تتخلى عن معادلة "القهر الشرعي" فضلاً عن سياسة "طليق اليد" وممارستها على الشركاء في العملية السياسية مثلما يفعل الاطار التنسيقي مع باقي الفواعل السياسية الرئيسة في تشكيل تحالف إدارة الدولة، ولدينا أمثلة كثيرة، لدرجة أنّ كثير من ابناء المحافظات السُنية يشعرون بتعرض محافظاتهم لعقاب جماعي، ولاسيما أنّ هناك شواهد على ذلك، مثلاً إقصاء رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي من منصبه بقرار من المحكمة الاتحادية، وإقصاء محافظ نينوى نجم الجبوري من منصبه بسبب شموله باجراءات هيئة المساءلة والعدالة، علماً بان قانون رقم 10 لسنة 2008 بالمادة (الثانية عشرة) يسمح للمشمولين بالاستثناء والتي نصت على "لمجلس الوزراء حق النظر في الحالات الاستثنائية للعودة الى الوظيفة للمشمولين بهذا القانون وبحسب مقتضيات المصلحة العامة بناءً على طلب الوزير المختص بالتنسيق مع الهيئة واتخاذ القرار المناسب بشأنها ولا يكون القرار نافذاً إلا بمصادقة مجلس النواب عليه"، وايضاً ما تتعرض له محافظتي ديالى وكركوك من صراع على تشكيل الحكومات المحلية، بحيث تم التجاوز على السقوف القانونية المحددة في قانون المحافظات غير المنتظمة في اقليم المعدل رقم 21 لسنة 2008 حيث نصت المادة (السابعة /اولاً) من القانون على "ينتخب رئيس المجلس ونائبه بالاغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس في أول جلسة يعقدها المجلس وبدعوة من المحافظ خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ المصادقة على نتائج الانتخابات وفي حالة عدم دعوة المحافظ لإنعقاد المجلس يعقد تلقائياً في اليوم السادس عشر، وتنعقد الجلسة برئاسة اكبر الاعضاء سناً"، بينما الفقرة (سابعاً) من نفس المادة نصت على "انتخاب المحافظ ونائبيه بالاغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس خلال مدة اقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ انعقاد أول جلسة له" هذه السقوف الزمنية التي حددها القانون لم يتم الالتزام بها ولاسيما في محافظتي ديالى وكركوك وهذا له تأثير على مستوى الخطط الاستراتيجية للمحافظة، فضلاً عن الجانب الرقابي والتشريعي، وايضاً الجانب الامني الذي ينعكس حسب الحالة على النسيج الاجتماعي.
هناك مغذيات لتشظي الكتل السنية واستمرارها في دوامة، من قبول بعض الفواعل السياسية داخل الاطار التنسيقي، واستخدام سياسة "الضد النوعي" عن طريق تشجيع نواب للانسحاب من هذه الكتلة أو تلك حتى يبقى الوضع متأرجحا مابين هذا وذاك مرة هنا ومرة هناك، وهذا واضح وتم تشخيص هذه السياسة المتبعة،لذا فإن اي نائب ينسحب من الكتلة النيابية الأكثر عدداً تكون الموافقة لا مناص منها على طلباته المقدمة إلى رئيس مجلس الوزراء والتي تتضمن مشاريع كثيرة سواء خدمية او صحية، وتحتوي على هامش "موافق، تنفذ مع اعلامي"، والسبب معروف لأن رئيس مجلس الوزراء يريد رئيس مجلس نواب متوافق معه، وهذا الأمر إن حصل ستبقى صلاحيات المجلس بالمادة (61 وفقراتها) من الدستور تجامل السلطة التنفيذية إلى نهاية الدورة النيابية الخامسة، علماً أن المادة 47 من الدستور نصت على "تتكون السلطات الاتحادية من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات"، اي ما يحصل مخالفة دستورية واضحة لصلاحيات كل سلطة.
النزعة الانتقائية الانتقامية التي تتعامل بها أحزاب السلطة وصل إلى حد التنافس على تشريع قوانين تكرس حالة الانقسام والتشظي داخل المجتمع العراقي، والشعار الذي ترفعه احزاب السلطة هو "نصرة المذهب" والمذهب والقوميات الأخرى والأقليات تفكر بمعادلة رد الفعل، وتحويل السلطة التشريعية إلى حلبة تنافس ومزايدات كتلة على حساب أخرى بالتشريع الذي يخدم مذهب على حساب آخر، والمتضرر هو المجتمع بكافة أطيافه ومذاهبه وأقلياته، ويحافظ على كيان الاحزاب الفاسدة تحت عناوين طائفية، ولعل الفيلسوف ماركوس سيسرو توليوس صاحب نظرية "شيشرون" لشرح فساد الحكومات والمؤسسات يقول إنّ "الفقير من يعمل والغني يستغل الاول، والجندي هو من يدافع عن الاثنين معاً، والمواطن هو من يدفع للثلاثة، والكسول هو من يعيش في حياته على الأربعة، والسكير من يشرب من أجل الخمسة، ومدير البنك هو السارق للستة، والمحامي هو من يغش السبعة، والطبيب هو قاتل الثمانية، وحفار القبور هو من يدفن التسعة، ورجل السياسية يعيش على العشرة"، ولكم المقارنة والقياس.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً