لإنشاء أكبر قنصلية أمريكية في العالم، في مدينة أربيل، عاصمة إقليم كوردستان، دلالات كثيرة، أولها، التأكيد على قوة العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية والعسكرية والثقافية بين أربيل وواشنطن والرغبة الجدية في تعزيزها. وثانيها، تقدير ماضي إقليم كوردستان والثقة بحاضره ومستقبله. وثالثها، دعوة الدول الأخرى الصديقة للجانبين لإنشاء مجمعات دبلوماسية في أربيل. ورابعها، إستبعاد توقف الولايات المتحدة عن دعمها للإقليم وحكومته، رغم الضغوط والتصريحات الإقليمية القوية التي تدعو الى التموقع في الميدان الدبلوماسي، والإختيار بين المهم والإهم. وخامسها، التركيز على الأهميّة الإستراتيجيّة للإقليم بالنسبة لواشنطن في إطار البحث عن حلّ لأزمات المنطقة.
أما ترحيب السيد نيجيرفان بارزاني، رئيس حكومة الإقليم، بهذه الخطوة، التي تعبر أساساً للعلاقات والتعاون والتنسيق الأفضل بين أربيل وبغداد، في إطار العراق الاتحادي. وتذكيره، السفير الأمريكي في بغداد، دوغلاس سيليمان، والقنصل العام الأمريكي في أربيل، كين غروس، وعدد من الدبلوماسيين الأمريكيين والمسؤولين في الإقليم، الذين حضروا مراسم تدشين مجمع القنصلية، بالشراكة القائمة بين شعب وحكومة الإقليم من جهة وأمريكا والعالم المتقدم، من جهة أخرى في مجالات الإيمان بقيم الحرية والديمقراطية ومبادىء حقوق الإنسان، والتعددية القومية والدينية والسياسة والانفتاح والتعايش والتسامح وتطوير وتنمية قدرات النساء والشباب والتجارة الحرة، والعمل من أجلها. والإشارة إلى دور البيشمركه وقتالهم إلى جانب الجنود والضباط الأمريكيين والحلفاء ضد الإرهاب. والإعراب عن الشكر والتقدير للدعم العسكري والانساني الذي قدمته أمريكا لإقليم كوردستان، فإنه أراد إيصال رسائل مفادها إننا أناس لاننسى مواقف الآخرين تجاهنا.
لقد مرت العلاقات بين الكورد والولايات المتحدة بمراحل عدة، تبلورت بدايتها حينما عملت الأخيرة الى جانب فرنسا وألمانيا وبريطانيا، بعد إنتفاضة الشعب الكوردستاني في آذار 1991، والهجرة المليونية نحو الأراضي التركية والإيرانية، على فرض المنطقة الآمنة في كوردستان، وحمايتها من طائرات وهجمات حكومة صدام حسين، عبرالاستخدام الكثيف لقاعدة إنجيرليك العسكرية (في تركيا). وبعد تحول كوردستان الى كيان فيدرالي ديمقراطي، جرى تبادل الزيارات بين المسؤولين الكورد والأمريكان. كما توطدت العلاقات بين الجانبين، في العام 2003، حيث كان لقوات البيشمركه القدرة على تحقيق النجاحات في معارك الميدان ضد الأعداء المشتركين، وهذه القدرة جعله يظفر بدعم ورعاية الأمريكان، وفي الوقت ذاته بات الإقليم مدعوماً من قبل الحلفاء. وبعد ظهور داعش فإن العالم بأسره، وجد أن قوات البيشمركه، تحت إشراف الرئيس مسعود بارزاني، هي القوة الوحيدة القادرة على كسر شوكة داعش، وهذا الإعتقاد الصائب، شكل نقطة تحول كبرى في توطيد العلاقات بين الكورد والولايات المتحدة والكثير من شعوب وبلدان العالم، علاقات تعكس مصالح إستراتيجيّة ممكنة ومتبادلة لا تترك مجالاً للشكّ بشأن ضرورة تقديم المساعدات الفعليّة الى الإقليم. ولكن، بعد الإستفتاء الذي جرى في أيلول الماضي، جاءت الصدمة العميقة حينما تحركت موازين القوى لمصلحة بغداد، وكان هناك بعض الاستنتاجات المتسرّعة التي لاتتسم بالمعقولية والقبول، وإتهامات متكرّرة ونقاط عدة غير واضحة، تفكّر بمنطق القطيعة والتوجه الى الصيغ الجاهزة التي تصور إعادة النظر في العلاقات بين الكورد وأمريكا، وعدم تعليق الآمال والطموحات على الولايات المتحدة على المدى القريب والمتوسّط. وحتى الغرق في سيناريو مغاير كفيل بالسيطرة على النظرة المستقبلية للسياسة الكوردستانية الجديدة. ولكن الضرر الذي لحق بالكورد، رغم جسامته المادية والمعنوية والإنسانية، كان قابلاً للمعالجة بموجب المعطيات المشخصة والمستنبطة ومجريات الأحداث في المنطقة، من خلال إجتياز مرحلة ما بعد الاستفتاء بالتفكير في المستقبل وإعادة المصداقية للعلاقات القائمة بين أربيل وواشنطن على الأمن المشترك والمصالح الجيوسياسية، عبر طريق طويل من العمل عن كثب مع رئيس وزراء إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني، والتأكيد على التوسط بين أربيل وبغداد للحدّ من تصعيد التوتر والبحث عن الحلول الجادة والموضوعية التي تنهي التنازع والنزاعات، وكذلك التأكيد على ضرورة وجود كوردستان أقوى ليساعد على بناء عراق أقوي يحرص على حياة وحقوق الأنسان. وفي هذا الخصوص، يمكن القول: ان بناء هذه القنصلية الكبيرة في أربيل، لدولة كبيرة ومحط إهتمام كبير للقوى الإقليمية والدولية، والقادرة على التأثير في موازين القوى، دليل على أن شيئاً جديداً محسوباً بدقة يلوح في الأفق، ربما يفوق مشهد التصورات والمؤشرات.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً