لقد مرت أكثر من عقد على تلك اللحظات والأيام المظلمة التي دمرت الجسد المادي للمجتمع الإيزدي، وقد حملت هذه السنوات مأساة يصعب على أي شخص وصفها.. عقد من الألم والجروح التي لا يمكن شفاءها، ولكن أيضا عقد من المقاومة الصامتة.
لكن اليوم، بينما لا تزال جراح الذاكرة الجماعية تنزف، يقف الشباب الإيزديون عند نقطة تحول حاسمة: إما أن يظلوا محملين بأعباء الماضي أو أن يصبحوا جسرًا يربط المجتمع من ظلامه إلى فجر جديد. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف يعيش هؤلاء الشباب في الوقت الراهن؟ وما هي المهام التي ينبغي عليهم القيام بها لتحويل المأساة إلى دافع نحو التغيير؟
لا يزال العديد من الشباب الإيزديين يعيشون في مخيمات النزوح، تحت خيام متهالكة أو بين جدران إسمنتية لا توفر لهم أي حماية من برد الشتاء أو حرارة الصيف. هنا، تتلخص الحياة في وجبة تُوزع من قبل المنظمات، وفي انتظار طويل لمساعدات لا تأتي بالسرعة المطلوبة، مما يملأ جيلًا كاملًا بالأسئلة الوجودية: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟ لا يزال الذين شهدوا هجمات داعش يحتفظون بذكريات حية، بينما يعرف الشباب فقط قصص الفقدان، وكأنها إرث مؤلم.
الاغتراب هنا ليس مجرد انفصال عن المكان، بل هو أيضًا انفصال عن الذات. الشاب الإيزدي الذي وُلِد في مخيم للاجئين أو نُزح وهو طفل، يجد نفسه عالقًا بين هويتين: الهوية الإيزيدية التي تتمسك بالتقاليد القديمة واللغة والدين، وهوية "اللاجئ" التي فرضتها عليه المنظمات الدولية، مما جعله شخصية بارزة في التقارير الإنسانية. هذه المشاعر تخلق إحساسًا بالخسارة، خاصة عندما يسمع أحدهم يهمس له: "انسَ الماضي، تخلَّ عن هويتك وعيش"، لكن النسيان ليس خيارًا هنا، حيث يدرك الشاب أن التخلي عن هويته يعني موت المجتمع بأسره.
تُعتبر التحديات التي يواجهها الشباب أكبر من أن تقتصر على الجوانب المالية، إذ تشمل أيضًا أبعادًا نفسية عميقة. يعاني العديد منهم من اضطرابات ما بعد الصدمة، والقلق، وكوابيس متكررة تتعلق بعمليات الإعدام الجماعي، واختطاف النساء، وقصف المواقع المقدسة. لا يمكن قياس هذا الألم بالأرقام، بل يمكن تجسيده في صمت طويل لشاب يتأمل بلا هدف في الأفق، أو في دموع فتاة ترفض التحدث عن والدتها المفقودة.
يتناول المجتمع الدولي موضوع "برامج الدعم النفسي"، لكن الواقع يشير إلى أن العيادات النفسية - إن وُجدت - في مخيمات اللاجئين تفتقر إلى المتخصصين الذين يفهمون خصوصيات الثقافة الإيزيدية. كيف يمكن للأطباء النفسيين من ثقافات مختلفة أن يفسروا إرثًا يمتد لقرون من العنف الجماعي؟ هنا يظهر دور الشباب أنفسهم، حيث بدأ بعضهم في تدريب أنفسهم على تقديم الدعم النفسي لأقرانهم، مستخدمين لغة مشتركة ومراعين حساسية السرد.
في خضم هذه المأساة، نشأ وعي جديد بين فئة من الشباب الإيزدي الذين رفضوا أن يكونوا مجرد ضحايا في السرد التاريخي. تتمثل مسؤوليتهم الأساسية في الحفاظ على الذكريات. بعضهم قام بتحويل قصص عائلته إلى أعمال فنية أو نصوص أدبية أو مسرحيات، أو حتى إلى منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تجمع بين التوثيق والإبداع. بينما قام آخرون بالتجول في القرى المهجورة، ملتقطين صوراً للآثار، وكتبوا أسماء الضحايا على الحجارة لضمان عدم نسيانهم.
أما المهمة الأخرى، فتتمثل في إعادة تعريف الهوية. يواجه الشباب اليوم خيارين: إما الانغلاق على الماضي خوفاً من الاندثار، أو الانفتاح على العالم مع الحفاظ على جوهرهم. وهناك من يختار الطريق الثالث، وهو خلق هوية هجينة تجمع بين عناصر الحداثة والجذور. على سبيل المثال، هناك فتاة إيزيدية تدرس القانون الدولي في أوروبا، لكنها تخصص وقتاً لتعلم تراتيل دينها من جدتها. وشاب آخر أطلق مدونة باللغة الكوردية لتعليم الآخرين عن ثقافة الإيزديين، بينما يعمل في الوقت نفسه على تطوير تطبيق إلكتروني لحفظ التراث الشفوي.
تتمثل المسؤولية الكبرى في تحويل الألم إلى عمل سياسي واجتماعي. يدرك الشباب اليوم أن التعاطف الدولي مع معاناتهم لن يدوم إلى الأبد، لذا يجب عليهم خوض معركة الاعتراف بجينوسايدهم كجريمة دولية، ومحاسبة المجرمين، وإعادة بناء ما تم تدميره. بعضهم انخرط في منظمات حقوقية، بينما يضغط آخرون على الحكومات من خلال الحملات الإعلامية. لم يعد الناشط الإيزيدي الشاب يطلب المساعدة، بل يطالب بحقوقه.
بالطبع، الطريق ليست سهلة. يعاني العديد من الشباب من نقص الفرص الاقتصادية، مما يدفعهم إلى الهجرة، وبالتالي يؤدي إلى تفكيك النسيج المجتمعي بشكل أكبر. كما أن التهميش السياسي في العراق يزيد من تفاقم المشكلة، حيث لا تزال مناطقهم تعاني من الإهمال الحكومي. بالإضافة إلى ذلك، تساهم الانقسامات داخل المجتمع الإيزيدي نفسه – بين الراغبين في الانفتاح والخائفين منه – في خلق صراعات هوياتية صغيرة.
على ان الأمل لا يزال حاضراً. في السنوات الأخيرة، برزت نماذج شبابية ملهمة: مهندسون يعملون على إعادة بناء المزارات الدينية باستخدام الحجارة المستخرجة من الأنقاض، وفنانون يروون قصص الناجيات من خلال الأفلام الوثائقية، ومعلمات يعلّمن الأطفال في مدارس مؤقتة وهن يحملن في حقائبهن كتباً عن تاريخ الإيزديين. هؤلاء لا ينتظرون منقذاً، بل يسعون لبناء واقع جديد بأيديهم.
قد يراها البعض قاسية، لكن الشباب الإيزدي بدأوا يدركون أن تحويل المأساة إلى قوة ليس خيانة للضحايا، بل هو استكمال لمسيرتهم. الذاكرة هنا ليست عبئاً، بل هي وقود لإثبات الوجود. ربما لن تشهد الأجيال الحالية نهاية للمعاناة، لكنها قادرة على زرع بذور يستظل بها أحفادهم. فالشاب الإيزدي اليوم ليس مجرد حفيد للضحايا، بل هو أب لمستقبل يرفض أن يكون مكسوراً.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً