تطورات مذهلة تواكب الذكاء الاصطناعي، كل يوم يأتينا بخبر جديد فيه الخبيث وفيه الحميد.
غزو تكنولوجي ذكي جديد يضربنا في اعماقنا بيد من حديد، ويضعنا في محراب الاستغراب، ونحن في سوءة من اغتيال عقولنا، استعصت على ذكاء الغراب.
في سنة 2000 نشرت مقالة في جريدة (العرب اليوم) الاردنية قلت :ان العالم غادر من زمن بعيد (قرية ماكلوهان) لأننا نعيش اليوم رغما عنا داخل حمام زجاجي، ليس فيه حشمة ولا امان، لا تاج ولا صولجان، كأنه يوم النشور. حفاة عراة الى ربنا قاصدون داخل (حمامات زجاجية) فارعون متعرون، الكل يرى عورة الكل.
والعورة هنا ليست بمعناها الفسيولوجي، بل بابعادها وانساقها، وادبياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وحتى النفسية.
في كتابي (تصدع السلطة الرابعة) اشرت الى هذه الحقيقة المثيرة اي فكرة :(الاتصال المفضوح) عن طريق الرسائل الالكترونية الحميمية المتبادلة في دائرة عصر (الاتصال التفاعلي) الذي نعيشه الان ملء جوارحنا، بأفراحنا واتراحنا وبمنتهى التبصر واليقين، بعد ان كنا نحلم ونلهو بمغريات مصباح علاء الدين.
لقد تبدد مفهوم (القرية) تماماً، لان القرية امست رتيبة في اتصالاتها وتفاعلاتها ومفرداتها .عالم اليوم تختزله هذه الشاشة الصغيرة المثبتة امامنا وهي تتوسطنا باحترام وتبجيل، من دون تعسف ولا تنكيل.
فلم تعد الشاشة / شاشة التلفاز وحده فهي قد تناسلت وفرخت شاشات وايقونات من اللابتوب، الايباد، والهواتف الذكية، التي تستنسخ ولا تباد.
ان فكرة (الحمام الزجاجي) تنتعش سريعاً في عصرنا التفاعلي هذا، وبملء حواسنا الادراكية، بعد ان تلاشت الاسوار، تراجعت سلطة القرار، امام سلطة المواطن المغوار. بفضل الانتشار السريع والمثير للهواتف الذكية، متعددة البرامج، وبفضل والمدونات ومواقع الاتصال الاجتماعي، والفيسبوك واليوتيوب وتويتر وغيرها. وهكذا فقد اصبحنا امام التغيير الفظيع، في الرؤية والتنويع.
هو ذكاء رقمي متحرك ومتطور، متناسل غير متكاسل، تجاوز وسيتجاوز ذكاء الانسان، لا يقف متردداً بين الخير والشر، لواح لجميع البشر، سيمنع عنا التأمل والأصغاء، ونشوة الخصوصية.
سيجردنا من ثوب الكتابة والابداع، وسنعيش لحظات الزمن بلا مؤانسة ولا إمتاع، انه جهينة الذي يأتينا بالانباء، وعلينا ان نصغي اليه وحده باستمتاع.
نحن يا قوم: مكشوفون ومستسلمون لذكاء تكنولوجيا الاتصال، التي الغت الحب والوصال، انها (الجبرية الاتصالية) التي ثبتها في كتابي الاخير (جدل الاتصال) كنظرية جديدة اختزلت فيها كل ما جاء على لسان خبراء الأجيال.
الذكاء الاصطناعي كل يوم في شأن، ساحق ماحق، مثل گرندايزر الذي يعشقه الاطفال، لا يتوقف عند حدود آمنة، ابعاده ثلاثية، وجهاته وفصوله اربعة متوازية، ونحن مازلنا نبحث عن ابار ارتوازية.
الذكاء الاطناعي المصنع، سيفكر نيابة عنا، ويكتب نيابة عنا، وسيسرق افكارنا وابداعنا، قصصنا واحلامنا، وسيرسم لوحاتنا، وسيبيع افكارنا، وسيلبي رغبات الشركات رغما عنا، ثم يستخدم شفاهنا، ويحرك حناجرنا، وكأننا في اتصال باطني معه بتواصل مثير، وليس لنا ناقة ولا بعير.
انها (الجبرية) الاتصالية التي ترغمنا على الانسياق امامها، والامتثال لنهجها. من غير سؤال، ومن غير اعتراض ولا سجال وما علينا الا اعلان دهشتنا المتواصلة، والدهشة أصل الفلسفة، ولم يبق لنا الا ان نتذكر ام كلثوم وهي تغني: حسيبك للزمن، لا عتاب ولا شجن.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً