المسافة بين حلبجة، اقصى اقليم كوردستان، ومخيم رفحاء السعودي جنوب غرب العراق، بعيدة، بل بعيدة جدا ولا تقاس بالاميال الارضية او الجوية، انا لا اتحدث هنا عن المسافات الجغرافية، بل عن الاحداث، واعتذر مقدما لضحايا واهالي الضحايا وسكان حلبجة فليس في نيتي على الاطلاق المقارنة بين ضحايا المدينة المنكوبة ونزلاء المخيم الذي ضم من هرب من العراق الى السعودية.
في مثل هذا اليوم 16 وحتى 19 آذار عام 1988، وبينما كان الكورد، من سكان مدينة حلبجة وسواها يستعدون للاحتفال باعياد نوروز القومية، اهدتهم قوى الظلام والشر في النظام السابق اقسى وسائل القتل عندما امطرت المدينة الوادعة الموت بواسطة الاسلحة الكيمياوية التي ادت على الفور مقتل اكثر من 5 الاف انسان بريء، واصابت اكثر من عشرة الاف كوردي مدني عراقي أعزل، دون التمييز بين الامهات والاباء والابناء بمختلف الاعمار والاطفال بالعوق والذين ما زالوا يتوارثون آثار الاسلحة الكيمياوية.. واعتبرت هذه الجريمة أكبر هجمة كيماوية وُجّهت ضد سكان مدنيين من عرق واحد حتى اليوم، وصنفت دوليا كجريمة إبادة جماعية.
عندما زرت حلبجة مؤخرا، شعرت وكأنني اتنفس رائحة غاز الخردل او غيره من غازات الموت، فالفجيعة وتاريخها ماثلة في عيون الامهات والاباء وحتى الصبابا والفتيان توارثوا هذه النظرات الحزينة والحادة في وقت واحد بالرغم من مرور 36 سنة على ابشع جريمة إبادة بعد قصف اميركا لهيروشيما وناكازاكي عام 1945، في نهاية الحرب العالمية الثانية، والمقارنة هنا واردة بين قصف اليبان وقصف حلبجة قبيل نهاية الحرب العراقية الايرانية في 8/8/ 1988.
36 عام والحكومات العراقية، المركزية، ولا اقول الاتحادية اذ لا ينطبق عليها مثل هذا الوصف، منذ نظام صدام الدكتاتوري الاجرامي وحتى اليوم، لم ينصفوا اهالي حلبجة وضحاياهم، سوى اننا نسمع الخطب الرنانة من قادة احزاب الاسلام السياسي الذين يديرون دفة الحكم والتحكم بمجريات الامور في العراق، وهم يشجبون قصف حلبجة بالاسلحة الكيمياوية. لكننا لم نسمع احدهم يتحدث عن تعويض اهالي الضحايا، والضحايا الاحياء الذين يعانون من الاصابات الخطيرة نتيجة القصف الكيمياوي، وتحمل نفقات علاجهم خارج العراق، وهذه حقوقهم المشروعة وليس فضلا تمن به عليهم.
في المقابل وبتصرف طائفي بحت تمنح الحكومة العراقية 40 مليار دولار سنويا لمن يطلقون عليهم بالرفحاويين، وهم بعض من شارك بانتفاضة آذار عام 1991 ضد النظام السابق في المدن الشيعية، وبدلا من مواجهة اجهزة النظام هربوا الى الاراضي السعودية، حيث بنت السلطات السعودية لهم مخيما في محافظة رفحاء بالقرب من الحدود العراقية، يحتوي على مراكز صحية ومدارس واسواق وتم ضع فيه المشاركون في الانتفاضة مع عائلاتهم، وحتى الذين فروا من العراق من دون المشاركة في الانتفاضة للاستفادة من الامتيازات، وبقي هذا المخيم موجودا حتى عام 2006 عندما أغلقته السلطات السعودية، بعد حصول غالبيتهم، ان لم يكن جميعهم، على إقامات في دول أجنبية مثل الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا وكندا والدنمارك وفنلندا وهولندا وسويسرا والسويد، وكان هذا هو هدفهم الاول.
هناك اختلاف وتفسيرات عديدة لأعداد العراقيين الذين كانوا في مخيم رفحاء، إذ تشير أرقام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين إلى حدود 21 ألف شخص خلال سنوات 1991 وحتى 2003، فيما تشير أرقام وزارة الخارجية السعودية إلى 35 ألف شخص.وبسبب تعاقب الأجيال والولادات الحديثة، بلغت الأعداد الحالية المسجلة رسميا نحو 150 ألف مستفيد من التعويضات للاجئي رفحاء، وفق ما كشف رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي في تصريحات صحفية.
ومنح القانون ما يسمى بمحتجزي رفحاء امتيازات برواتب مخصصة لكل من أقام في ذلك المخيم ولو لمدة أسبوع واحد، أكان رب العائلة أو فردا من العائلة، بحيث تم تحديدها بنحو 1.2 مليون دينار عراقي (تعادل نحو 1000 دولار).وتضاف لهذا الراتب أيضا مبالغ أخرى إذا كان الشخص قد تعرض للاعتقال بسبب آرائه أو نشاطاته السياسية ما قبل عام 2003، وهذا نادر الحدوث فكلنا نعرف ان نظام صدام حسين لم يترك معارض له حيا الا فيما ندر.
كما يحصل "محتجزو رفحاء" على علاج وسفر ودراسة مجانا على نفقة مؤسسة السجناء السياسيين، ويبلغ مجموع نفقات ما يترتب عليه هذا القانون سنويا أكثر من 40 مليار دولارتقريبا وامتيازات أخرى تتمثل بمنحهم قطع أراض ووظائف لأبنائهم، كما يتمتعون بحق الجمع بين راتبين في آن واحد مخالفة للقانون العراقي. وما تزال هذه العوائل تستفيد من هذه المليارات وهم خارج العراق، فهناك عوائل تضم 10 اقراد وجميعهم يتمتع بهذه الامتيازات، حتى الطفل الذي كان جنينا في بطن امه.
هذه هي المسافة بين حلبجة الشهيدة التي فقدت الالاف من ابنائها نتيجة جريمة نفذها النظام السابق دون ان يقترفوا اي ذنب، والرفحاويين الذين يتقاضون مليارات الدولارات كثمن هروبهم من العراق وتمتعهم بامتيازات مبالغ بها وهم خارج او داخل البلد. ولنفترض انهم شاركوا بالفعل في الانتفاضة ضد النظام السابق، فهل لهم ان يتقاضوا ثمن نضالهم، ان وجد هذا النضال؟.
ان من واجب الحكومة العراقية عدم التعامل مع العراقيين بازدواجية وان تهتم بالمواطنين بمقاس واحد وليس بمقياس طائفي مقيت، فتحرم الضحايا في حلبجة من حقوقهم وكانها تقتلهم مرة ثانية وثالثة، و(تدلل) اتباع مذهب الاحزاب التي تسيطر على السلطة بمليارات الدولارات، في الوقت الذي يجب عليها الغاء قانون رفحاء الى الابد.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً