لم يقتصر فضل القائد صلاح الدين الأيوبي، وهو كردي مسلم، على تحرير فلسطين من الصليبيين بل عمل على ربط المسلمين بأرض فلسطين عن طريق الإقامة والسكن والرباط، فاستقر عشرات الآلاف من الجنود الأكراد في مدن فلسطين، ومع مرور الوقت نشأت مئات العائلات الكردية.
وانصهرت مع بقية القوميات، حيث ارتبط وجود الأكراد في فلسطين في القرون الوسطى باحداث الصراع الإسلامي – الصليبي على بلاد الشام ومصر أيام الدولة النورية التي أسسها نور الدين زنكي، وبالدولة الصلاحية الأيوبية التي أسسها البطل الكردي صلاح الدين الأيوبي، وبعد هذه الفترة ظل الاكراد يتوافدون إلى مدن وقرى فلسطين في العهود اللاحقة منذ أيام الدولة المملوكية والعثمانية والانتداب البريطاني حتى بدايات العصر الحديث.
وكانوا يأتون إليها على شكل مجاهدين في الجيوش الإسلامية التي تشكلت منذ أيام نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، وقد أعطى الأخير الكثير من الأمراء الكرد إقطاعات خاصة بهم في مدن فلسطين الرئيسية من أجل الدفاع عنها أمام الغزوات الصليبية، والعمل على صبغ البلاد بالطابع الإسلامي بعدما كانت فلسطين مملكة صليبية لأكثر من مائة عام، ومع الأيام شكل الكرد الموجودون في هذه المدن أحياء خاصة بهم في كل من القدس والخليل وعكا ونابلس وغزة.
واشتهرت بإسمهم" محلات الأكراد"، فعلى سبيل المثال أسكن صلاح الدين الكرد في مدينة الخليل، ومع الأيام أخذوا ينافسون سكانها على زعامتها، فصار بها حلفان: الحلف الأيوبي الكردي، والحلف العربي التميمي، ودخل الحلفان في صدامات وصراعات عشائرية انتهت بهما إلى (مذبحة السلطان قايتباي) المملوكي سنة 878هـ/ 1473م، وكانت مذبحة فاحشة، نتج عنها تفرق الحلفين إلى جهات مختلفة في فلسطين، فتفرق الكرد إلى نابلس واللد والقدس وخان يونس، وانتهت الأمور بتدخل السلطان المملوكي آنذاك، حتى ضعفت شوكت الأيوبيين في الخليل في القرن التاسع عشر قبيل حملة إبراهيم باشا المصري على بلاد الشام 1830م.
أما مدينة نابلس فقد منحها السلطان صلاح الدين الأيوبي لابن أخته حسام الدين لاجين بعد أن فتحها الأخير وأخرج الصليبيين منها، وأصبحت إقطاعاً له، وبعد وفاته انتقلت إلى الأمراء الكرد أمثال سيف الدين علي بن احمد الهكاري.
كما شكل كرد نابلس أكثرية الجيش المملوكي، وكان من بينهم رجال إدارة وحكم مرموقين، واستمر مجيء العلماء ورجال الدين الكرد إلى مدن فلسطين في العصر المملوكي، فقد نزل الشيخ إبراهيم بن الهدمة الكردي قرية (سعير) الواقعة ما بين القدس والخليل، وكان صاحب كرامات، وأقام بها حتى توفي سنة 730هـ/1329م.
كما نزل العالم بدر الدين الهكاري السلتي وأبناؤه مدينة القدس قادمين إليها من مدينة السلط في شرقي الأردن، وكونوا ( حارة السلطية) نسبة إلى بلدة السلط التي قدموا منها، وتولى أحفاده إمامة المسجد الأقصى لعقود طويلة، وعرفوا بعائلة ( الإمام )، ولا يزالون يقيمون في القدس إلى اليوم.
وكان عدد الكرد كبير في مدينة القدس، إذ شكلوا بها حارة خاصة بهم عرفت باسم "حارة الأكراد"، وكانت تقع غربي حارة المغاربة، وتعرف اليوم باسم "حارة الشرف"، وشهدت القدس استقبال عدد لا بأس به من علماء الأكراد أيضاً، مثل الشيخ احمد محمد الكردي البسطامي- شيخ البسطامية بها- الذي عمل في التدريس بالمدرسة الصلاحية الصوفية، وبقي فيها حتى توفي سنة 881هـ/ 1400م، والشيخ يوسف الكردي الذي درس بالمدرسة الصلاحية، والشيخ جبريل الكردي الذي كان من أهل الفضل ومن أصحاب شيخ الإسلام الكمالي، والشيخ نجم الدين داود الكردي الذي درس بالمدرسة الصلاحية، والشيخ درباس الكردي الهكاري المدرس بالمدرسة الجاولية.
كما توجد اليوم في ساحة الحرم القدسي الشريف ( القبة القيمرية )، نسبة إلى جماعة من المجاهدين الكرد القادمين من ( قلعة قيمر) الواقعة في الجبال بين الموصل وخلاط ، ونسب إليها جماعة من الأمراء الأكراد، ويقال لصاحبها أبوالفوارس، ومن المدفونين في (القبة القيمرية ) الشهيد الأمير حسام الدين أبو الحسن بن أبي الفوارس القيمري المتوفى سنة 648هـ/1250م، والأمير ضياء الدين موسى بن أبي الفارس المتوفى سنة 648هـ/1250م، والأمير حسام الدن خضر القيمري المتوفى سنة 665هـ/1262م، والأمير ناصر الدين أبو الحسن القيمري المتوفى سنة 665هـ/1266م.
ولا يزال أحفاد هؤلاء الأمراء يعيشون اليوم في القدس، وفي بلدة ( دورا ) بالخليل، ويعرفون ( بآل القيمري)، وقد هاجر قسم منهم بعد حرب حزيران 1967 إلى مدينتي عمان والزرقاء بالأردن، كما قدم الكرد الى القدس وجوارها خلال العهد العثماني، بعد أداء فريضة الحج، واقاموا في زاوية خاصة بهم وهي حي الأزبكية، وعمل بعضهم في الجيش وقوات الأمن، إذ كان احمد محمد الكردي مستخدماً في قوات الأمن، ومحمد فيروز الكردي مستخدماً في قوات الأمن، وحسن قواس البرزاني الكردي مستخدما في الجيش.
كما أشارت سجلات محكمة يافا الشرعية الى توطن عدد من الكرد في قضاء يافا في العهد العثماني (1864-1914م)، حيث عملوا في الجيش وقوات الأمن داخل قضاء يافا وخارجه، وبعضهم آثروا البقاء في المنطقة بعد انتهاء خدمتهم العسكرية، كما تظهرُ حجج حصر التركات في محكمة يافا الشرعية، فكان حسن آغا الكردي القاطن في (سكنة ارشيد) بيافا أحد أفراد الجيش العثماني في قضاء يافا، وكان الحاج بكير آغا الكردي جاويش في العساكر العثمانية المرابطة في القضاء، وكان الحاج احمد آغا بن محمد القواس الكردي القاطن في مدينة الرملة يوزباشي زاندرمة في لواء بني غازي.
وفي العهد العثماني شكل الجنود الكرد حارة خاصة بهم في مدينة غزة – مقر سنجق غزة العثماني- خلال القرن السادس عشر الميلادي، وعندما زار الرحالة التركي "أوليا شلبي" مدينة صفد عام 1671 م، ذكر بان معظم سكانها جند من الكرد، ولهم حارة خاصة باسمهم "حارة الأكراد"، وبها 200 دار.
ويلاحظ بان الكرد استمروا بالقدوم إلى مدن وقرى فلسطين خلال العهد العثماني من حي الأكراد بدمشق، ومن الجزيرة، وديار بكر، طلباً للعمل والتجارة، أو العمل كموظفين واداريين، أو جنود في الجيش العثماني.
وقد سادت علاقات طيبة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحركات الكردية، ثم تتوجت بافتتاح مكتب للحركة الكردية في فلسطين بعد عودة قيادة منظمة التحرير إلى الوطن، كما بادر الراحل ياسر عرفات إلى رعاية المؤتمر التأسيسي لجمعية الصداقة الفلسطينية-الكردية التي أقيمت في صيف 1999 في رام الله، وهي أول جمعية صداقة عربية-كردية في العصر الحديث، حيث قابل ذلك الجانب الكردي بإقامة أول جمعية صداقة كردية-عربية في أربيل بكردستان العراق في عام 2000.
من أبرز العشائر والعائلات الكردية في فلسطين:
الأسرة الأيوبية الكبرى :
جاء في ( وثيقة الأسرة الأيوبية الكبرى) المنشورة عام 1946 أسماء العائلات المتفرعة من الأسرة الأيوبية الكبرى، وهم أكراد أيوبيون يعودون بأصولهم الكردية إلى الدولة الأيوبية، وكانوا ضمن من توطنوا في فلسطين بعد تحريرها من الاحتلال الصليبي، ويسكن أغلبيتهم اليوم في مدينة الخليل بشكل خاص والبقية في مدن فلسطين الأخرى، والأسرة الأيوبية الكبرى تضم العشائر والعائلات الكردية الآتية: أبو خلف، صلاح، الهشلمون، طبلت، جويلس، البيطار، حمور، زلوم، حريز، الربيحية، البرادعي، احمرو، الجبريني، امحيسن، أبو زعرور، عرعر، صهيون، الحزين، برقان، سدر،فخذ أبو سالم/ مرقه، المهلوس، رويشد، أبو الحلاوة، الحشيم، متعب، قفيشه، وكانوا يشكلون حوالي نصف أو ثلث سكان مدينة الخليل. وقسم منهم يسكن اليوم في مدن جنين ونابلس والقدس ويافا ومصر والأردن.
-عائلة الإمام: يسكنون اليوم حول المدرسة الأمينية إلى الشمال من الحرم القدسي الشريف، ويعودون بأصولهم إلى العالم ضياء الدين محمد أبو عيسى الهكاري الصلتي القادم إليها من حارة الأكراد في مدينة ( السلط ) بالأردن خلال العصرالمملوكي، وقد تولى أحفاده إمامة المسجد الأقصى لقرون طويلة، ومنها لبسهم لقب الإمام ولقبوا به إلى اليوم.
آل زعرور: من أكثر العائلات الكردية عدداً، ويعودون بأصولهم إلى الأيوبيين، ويسكنون اليوم في العيزرية شرقي القدس، وفي مدينة الخليل.
دار الملا: وهم أكراد من نسل ملا أو منلا علي حاكم الناصرة الذي ينتسبون إليه، ويسكنون مدينة الناصرة.
آل سيف: يقال بأنهم من نسل آل سيفا الأكراد الذين حكموا طرابلس وعكار شمالي لبنان في القرن السادس عشر، وقد نزلوها بعد صراعهم مع المعنيين في جبل لبنان منذ قرون خلت.
آل موسى وآل عيسى: عرفت ذريتهم بالبرقاوي نسبة إلى بلدة برقة بجوار نابلس، وينحدرون من آل سيفا الأكراد حكام طرابلس وعكار في شمالي لبنان في القرن السادس عشر، ويقيمون اليوم في قرية شوفه وكفر اللبد.
آل القيمري: وهم من أحفاد الأمراء الأكراد الذين قدموا إلى فلسطين من منطقة ( قيمر) الواقعة في الجبال بين الموصل وخلاط في كردستان العراق، وقد استقروا في مدينة الخليل في عصر الدولة الأيوبية بصفتهم مجاهدين في جيش صلاح الدين الأيوبي، ولأجدادهم اليوم ( القبة القيمرية) القائمة في الحرم القدسي الشريف وتضم رفات بعض أمرائهم الذين استشهدوا في تلك الحروب، ويسكن آل القيمري اليوم في بلدة( دورا) الخليل، وقسم منهم هاجر إلى عمان بالأردن.
من عائلات مدينة القدس: تضم مدينة القدس عدد من العائلات الكردية وهي: عائلة أبي اللطف، الكرد، الكردي، البسطامي،عليكو، الأيوبيون مثل: السائح، أبو غليون، عكه، قفيشه، غراب، أبو حميد، الأيوبي، الحزين، سدر، مرقه، علوش، الجبريني، البرادعي، فراح، امحيسن، متعب، الأيوبي، زلوم، حريز، اعسيلة .
ومن العائلات الكردية الأخرى المقيمة في القرى والمدن الفلسطينية: الشحيمات – فرع من عشيرة البشاتوه كانوا يقيمون في قرى (كوكب الهوا ،والمزار، والبشاتوة) في قضاء بيسان، وقد هاجر أغلبيتهم إلى غور الأردن واستقروا به، في مدينة الشونة الشمالية والمنشية ووقاص واربد بعد عام 1948.
وهناك عائلات: الآغا في مدينة (صفد)، والكردي في قرية ( دير البلح)، والكردي والكنفاني في مدينة (عكا)، والكردي وفشري من الأيوبية في مدينة ( اللد)، والأكراد الأيوبية في قرية الربيحية / قضاء الخليل، واللحام في بلدة (صوريف)، والكردي في مدينة طبرية، والظاظا في مدينة (بيسان)، وأبو زهرة والكردي وزلوم والسائح في مدينة ( نابلس)، وعائلات الناجي، باكير، علوه، في طيرة حيفا، وهم من اصل كردي قدموا اليها من ديار بكر، وهم من ذراري ثلاثة أقرباء وهم: بكوه ( باكير)، و علوه ( علي)، وحسوه ( حسن) وكانوا يقيمون في (طيرة حيفا)،وبعد عام 1948 هاجروا الى الأردن، وهناك آل مراد الكردي، والآغا، والظاظا، والكردي في قطاع غزة، والكردي في ( مخيم عائدة ) بجوار بيت لحم، والآغا في مدينة ( خان يونس)، والكردي في مدينة ( بئر السبع)، وأبو زهرة في ( يطا) ، وأكراد البقارة والغنامة في قضاء طبرية، والكردي في قريتي ( حوارة وحواسة)، والكردي في مدينة ( الرملة)، والكردي في قرية ( عين عريك) ، والكرد في ( القدس والخليل ودير البلح وبيت طيما)، والأيوبي والسعدية من الأسرة الأيوبية في مدينة ( يافا)، وآل أبو الهيجا في قرية (عين حوض).
مدينة غزة: عاشت عائلة الظاظا في قرية "الكوفخة" في منطقة بير السبع حتى عام 1948، وعندما تعرضت القرية للهدم والتجريف رجعوا الى مدينة غزة، ويقول أحد أفراد عائلة الظاظا بان أساس العائلة من أكراد كردستان وقد جاء جدهم الى غزة أيام الدولة العثمانية بحكم وظيفته، وكان اسمه الحاج مصطفى الظاظا، وانجب ولدين هما عبدالحميد، و(عبد ربه) الذي ذهب مع أولاده عبد الرحمن وديب وسكن في قرية الكوفخة وعملوا في الفلاحة وتربية الأغنام والجمال، وبعد تدمير هذه القرية 1948 نزلوا مدينة غزة.
مدينة طبرية: وفي طبرية تسكن عائلة الكردي التي تنتمي الى عشيرة الايزولي الكردية في سوريا، وقد عينت حكومة الانتداب البريطاني السيد محمد أيوب ظاظا (أبو أيوب الكردي) مختاراً للمسلمين في مدينة طبرية، وهناك عائلة بكداش، وعائلة خليل الكردي(جرس)، وعائلة ظاظا وجدهم هو الحاج درويش ظاظا، وعائلة بكر آغا (ازولي) وجدهم بكر صدقي آغا (أزولي).
مدينة يافا: أشارت سجلات محكمة يافا الشرعية إلى توطين عدد من الكرد في قضاء يافاء في العهد العثماني (1864-1914م). إذ عملوا في الجيش وقوات الأمن داخل قضاء يافا وخارجه، وبعضهم آثروا البقاء في المنطقة بعد انتهاء خدمتهم العسكرية، كما تظهر حجج حصر التركات في محكمة يافا الشرعية، فكان حسن آغا الكردي القاطن في سكنة ارشيد بيافا أحد أفراد الجيش العثماني في القضاء، وكان الحاج بكير آغا الكردي جاويش في العساكر العثمانية المرابطة في القضاء، وكان الحاج احمد آغا بن محمد القواس الكردي القاطن في مدينة الرملة يوزباشي زاندرمة في لواء بنيغازي.
ونتيجة للصراع العربي- الإسرائيلي الذي جرى في فلسطين وخصوصا حربي عام 1948، وعام 1967م هاجر الكثير من العائلات الكردية السابقة الذكر إلى بعض الدول العربية المجاورة كسوريا ولبنان ومصر والعراق والأردن ودول الخليج، والى بعض الدول الأوروبية وأمريكا.
يلاحظ بان أغلبية كرد فلسطين قد استعربوا، وذلك بسبب وجودهم في فلسطين منذ عشرات السنين والتي تعود إلى حوالي تسعمائة سنة أيام الحروب الصليبية، فكانت تلك الفترة الزمنية الطويلة كفيلة بتعريبهم وصهرهم في بوتقة المجتمع العربي الفلسطيني.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً