فاروق سلوم*
مثلما فعل طوال السنوات، يواصل الفنان سلطان الخطيب إدهاشنا في حفلاته الموسيقية على آلة البيانو كما يواصل إطلاق دهشاته الثقافية والموسيقية في حواراته ومحاضراته ومشاريعه الموسيقية في عمله مستشاراً ثقافياً في عواصم دول الخليج.
وفي كل محاضرة كنت احضرها له اخرج محمّلاً بأنطباعات عن فكرة الإتقان وفكرة الثقة بالمعلومة ومسرة إطلاقها لتضيء رؤوس الناس وتلمع فكرة الحياة. ان سلطان الخطيب بتنويعات خطابه واسئلته وافكاره وشرائحه التي يعرضها يجدد في رؤوسنا الضوء مثلما يطلق فينا طاقة ابتكار الجمال في حياتنا ووجودنا قبل ان ينطمر الجمال الرافديني تحت تراب السنوات والأسى والنكوص التاريخي والأساطير والظلام. ويرى في محاضرته ان بلاد ما بين النهرين، التي غالباً ما يشار إليها باسم "مهد الحضارة"، كانت منطقة مهمة بأهمية قدامتها وموقعها شرق البحر الأبيض المتوسط، بين نهري دجلة والفرات. وقد عرفت بحضارتها المتقدمة التي تركت بصمةً لا تنمحى في التاريخ من خلال مساهماتها في مختلف جوانب الثقافة الإنسانية. ويحاول سلطان الخطيب ان يستكشف في محاضرته طبيعة الآلات الموسيقية والتأثير الثقافي لبلاد ما بين النهرين على العالم من خلال بنيتها المبكرة وتشكيلاتها واساليبها وما استكشفه من نتائج في مسار بحثه ومراجعه وزياراته المتحفية في عواصم العالم .
ولادة الحضارة في بلاد ما بين النهرين
برزت بلاد ما بين النهرين كواحدة من أوائل مهود الحضارة حوالي 3000 الى 7000 قبل الميلاد. كان السومريون والأكاديون والبابليون والآشوريون من بين المجتمعات البارزة التي ازدهرت في هذه المنطقة. وقد أرسى تقدمهم المجتمعي، بما في ذلك النظم القانونية المعقدة والزراعة والكتابة والرياضيات، الأساس للتقدم البشري في العلوم المختلفة وفي الموسيقى كما اشار بصفة عامة.
كان سلطان الخطيب في محاضرته، امس الأول، يطلق معنى مختلفا للأنسان التنويري، فبينما تتعاون ظروفٌ وعوامل تاريخية للفرقة ولطمر الهوية الوطنية النهرينية تأتي محاضرة سلطان الخطيب في النادي الأكاديمي الأجتماعي في اربيل - هه ولير الجميلة لتقول لنا حذار ان تسلم للظلام مكونات مجتمعنا الإنساني وعمق انتماءاته وهوياته وتاريخ حضاراتنا ومنجزها الثقافي والفني والتاريخي .
الموسيقى في بلاد ما بين النهرين
في محاضرة النادي الأكاديمي الأجتماعي التي ابدع في تقديمها الفنان سلطان الخطيب نرى كيف لعبت الموسيقى دوراً مهماً في مجتمع بلاد ما بين النهرين، حيث ظهرت تأثيراتها في الاحتفالات الدينية والمهرجانات والحياة اليومية. وكيف آمن سكان بلاد ما بين النهرين بقوة الموسيقى للتواصل مع الآلهة وتحقيق الانسجام والتوازن بي الأرضي والسماوي في العالم القديم. لقد طور الرافدينيون الأوائل بحسب سلطان الخطيب مجموعة متنوعة من الآلات الموسيقية، كان يخدم كل منها أغراضاً محددة.
حيث عرض لنا مجموعة من الآلات الوترية اضافة الى ماكانت تشكله آلة القيثارة، التي اكتشفت عام 1929 ميلادي وهي آلة وترية متقنة تتكون من صندوق محدد وأوتار وماسكات للأوتار وقد عرفت لدى العالم بأنها ذات صوت مميز وأوتار رنانة، تُعزف على نطاق واسع في بلاد ما بين النهرين. وشملت الآلات الأخرى القيثارة والعود، والتي كانت لها اختلافات مثل الطنبور والرباب واشكالا اخرى عرضها المحاضر بشكل تخصصي دقيق مشيرا الى اهميتها التاريخية والثقافية ..
واشار المحاضر الى كيفية صنع سكان بلاد ما بين النهرين الالات الهوائية مثل الكلارينيت مزدوج القصب، والمعروف باسم الناغو، وأنبوب القصب الأحادي، المسمى سامو كما وردت في المصادر.
وتطرق المحاضر الى استخدم سكان بلاد ما بين النهرين أدوات إيقاع مختلفة، بما في ذلك الطبول (مثل الطبلة الهيكلية والدف)، والصنج، والأجراس، والخشخيشات-كما في مصادر الدراسة.
ومع تنوع طريقة العرض وايصال المعلومة وعرض الصور والسلايدات اطلق سلطان الخطيب اقمارا معرفية وذاكرة مضيئة عن علاقة حضاراتنا النهرينية المتعاقبة والموسيقى في بلادنا ودول المنطقة والعالم بل إنه اشار الى أعمال بصرية ونحتية وتشكيلية ومعمارية تأثرت بمنجزات ورموز وفنون الحضارات النهرينية القديمة ودون ان ينحاز المحاضر سلطان الخطيب الى اختصاصه، كان يقول ان دراسة المنحوتات البارزة والتشكيلات الجدارية والتماثيل والتخطيطات التي تحتل اماكنها في متاحف العالم والتي تشير الى اقدم المجموعات الموسيقية وتشكيلاتها وتوزيع ادوارها الموسيقية ودرجات عزفها وايقاعاتها، كما دللت قراءاته ومراجعاته للأثار والصور والمنحوتات. ويشير تعدد الالات الهوائية والأيقاعية وابتكارها وتدويناتها وايقاعاتها وصورها المتحفية وتعدد وظائفها وانواعها انما هي امتياز حضاري رافديني يجعلنا نعرف بدقة علاقة منجز الحضارات القديمة في وادي الرافدين مع كل امتياز انساني كوني بشكل لا ينقطع ولا يمكن تغييب هويته الرافدينية القديمة .
التأثير الثقافي على العالم
تطرق المحاضر الى ما كان للإرث الثقافي لبلاد ما بين النهرين من تأثير عميق على الحضارات اللاحقة وتقاليدها الموسيقية في امور اساسية منها
أ. تطور التدوين: حيث اشار الى الخطوات التي قطعها سكان بلاد ما بين النهرين في تدوين الموسيقى ووصف الاتها، حيث طوروا شكلاً مبكراً من التدوين الموسيقي باستخدام الرموز المسمارية. وقد مهّد هذا الابتكار الطريق لتطوير أنظمة التدوين الموسيقي في مناطق أخرى.
ب. والمح الى دور الرياضيات والمقاييس الموسيقية البابلية عندما اكتشف البابليون، العلاقات الرياضية في الموسيقى واكتشفوا موازين موسيقية مختلفة. أثرت مساهماتهم على الموسيقى اليونانية القديمة والتطورات الموسيقية اللاحقة.
ج. دور الميثولوجيا البابلية والتأثير الديني: حيث انتشرت أساطير بلاد ما بين النهرين والمعتقدات الدينية، حول الآلهة والإلهات، إلى الحضارات المجاورة. حمل هذا النشر عناصر من موسيقى وطقوس بلاد ما بين النهرين واستخدام الآلات في الاحتفالات الدينية.
كما سهّل الموقع المركزي لبلاد ما بين النهرين شبكات التجارة النابضة بالحياة، مما أتاح تبادل السلع والأفكار والممارسات الثقافية. ساهم هذا التبادل في انتشار الآلات الموسيقية والتقاليد في بلاد ما بين النهرين عبر المناطق المجاورة نحو جهات مختلفة من العالم.
لعبت حضارة بلاد ما بين النهرين دوراً حيوياً في تشكيل تاريخ البشرية، بما في ذلك تطوير الموسيقى وآلاتها. من الرموز الموسيقية المبتكرة إلى مجموعة متنوعة من الآلات، ولا يزال التراث الموسيقي لبلاد الرافدين يتردد صداها في جميع أنحاء العالم. ساعد تأثيرها الثقافي، الذي انتشر من خلال الروابط التجارية والدينية، في تشكيل الحضارات اللاحقة وتقاليدها الموسيقية. من خلال الاعتراف بالإرث الثقافي الغني لبلاد ما بين النهرين، وفي محاضرة الفنان سلطان الخطيب روح المتعة والدهشة والاكتشاف حين أضاف لمسات خاصة عن اقدم مايسترو ياباني وعن ولع المحاضر بالروائي هاروكي موروكامي وقراءاته وتنوع العلاقات والبنى والعناصر الثقافية بأشكال الفن والكتابة والموسيقى بشكل اضفى طابعا مميزا لهذه المحاضرة التي نسجل فيها للمركز الأكاديمي الأجتماعي في مدينة اربيل اعتزازنا واحترامنا لأختياراته ومنهجه الثقافي الأجتماعي. ان الحضور النخبوي الواسع والجمهور المتنوع المتفاعل الذي احتفى بالفنان والمحاضر البارع سلطان الخطيب علامة للثقافة الأجتماعية المتجذرة في المدين من خلال الروح الرافديني الذي لا تنمحي هويته الثقافية المتنوعة في الحضور والثراء والتفاعل .
*شاعر وكاتب وباحث عراقي
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً