من المتوقع أن يشهد المشهد السياسي الكوردي في سوريا في الثامن عشر من نيسان حدثاً بالغ الأهمية، حيث يُنتظر انعقاد مؤتمر قومي يضم ما يقارب 300 شخصية تمثل طيفاً واسعاً من الأحزاب السياسية، والنشطاء المدنيين، والفعاليات الثقافية والاقتصادية، إضافة إلى شخصيات مستقلة وإعلاميين.
هذا المؤتمر المرتقب لا يُعد مجرد تجمع سياسي عابر، بل يشكل خطوة مفصلية في مسار القضية الكوردية في سوريا، ويضع أمام المشاركين مسؤولية صياغة ورقة سياسية جامعة، تعبّر بصدق وواقعية عن تطلعات الشعب الكوردي، وتضع تصوراً واضحاً لمستقبلهم ضمن إطار سوريا موحدة، قائمة على نظام اتحادي فدرالي، يضمن حقوق كافة المكونات القومية والدينية، ويكون حجر الأساس لبناء سوريا جديدة قادرة على النهوض من ركام سنوات طويلة من الصراع والألم.
إن صياغة ورقة سياسية تعبّر عن هذا الطموح، لم تعد ترفاً سياسياً، بل أصبحت ضرورة تفرضها التحولات العميقة التي تمر بها سوريا والمنطقة عموماً. هذه الورقة يجب أن تتجاوز الخطاب التقليدي الذي دأبت الحركة السياسية الكوردية على تبنيه لعقود طويلة، والقائم على تموضع دائم في موقع "المعارضة" دون التقدم خطوة نحو تحمل مسؤوليات المشاركة في صياغة الحل السياسي على المستوى الوطني. فالعقلية السياسية التقليدية أثبتت قصورها في مواكبة المتغيرات، ولابد اليوم من التوجه بعقل منفتح وواقعي، يضع المصالح القومية والحقوق الإنسانية للشعب الكوردي في صدارة الأولويات، ضمن تصور وطني متكامل.
ومن الأهمية بمكان أن تنجح الحركة السياسية الكوردية، بالتوازي مع عمل الوفد المزمع تشكيله، في تهيئة الأرضية السياسية والإعلامية والاجتماعية المناسبة، للتعاطي مع المتغيرات القادمة بلغة سياسية رصينة، تتخلى عن عقلية الضحية، وتتجاوز النظرة الضيقة إلى الواقع، لتتحول إلى طرف فاعل، يعرف كيف يدير مصالح شعبه بثبات ومنطق متزن، بعيداً عن الاستقطاب والمواقف العاطفية، ومستنداً إلى مفردات القانون والسياسة، لا الشعارات.
كما يجب أن يُدرك الوفد القادم من هذا المؤتمر أن وجوده في دمشق لا يمكن أن يكون رمزياً أو شكلياً، بل يجب أن يكون انعكاساً حقيقياً لتطلعات الشعب الكوردي. وهذا يستوجب اصطحاب فريق متكامل من الحقوقيين، وخبراء الاقتصاد، والمختصين باللغة العربية، وأصحاب التجارب السياسية والإدارية، ليكون هذا الوفد قادراً على خوض غمار المفاوضات بثقة وقوة وحكمة، وليُثبت أن القضية الكوردية ليست عبئاً على مستقبل سوريا، بل جزء لا يتجزأ من مشروعها الوطني الجامع.
وفي موازاة ذلك، تقتضي الحكمة السياسية أن تعمل الحركة الكوردية على بناء شبكة علاقات واسعة مع الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الشأن السوري، بعيداً عن الخطاب المنغلق، ومنفتحة حتى على الأطراف التي تعادي الكورد، انطلاقاً من القاعدة السياسية الراسخة: "لا صديق دائم في السياسة ولا عدو دائم". إن كسب احترام المحيط السياسي، وتقديم مشروع واضح وعقلاني، سيمنح القضية الكوردية حضوراً أكبر في المشهد السوري والدولي، ويفتح لها آفاق الحل السياسي المستدام.
الحركة السياسية الكوردية تملك رصيداً لا يستهان به في العلاقات السياسية، بفضل ما أنجزته الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا من بناء قنوات تواصل مع الأطراف الإقليمية والدولية خلال السنوات الماضية، وهو رصيد يمكن البناء عليه وتطويره كأداة فعّالة في المرحلة القادمة. كما أن تجربة إقليم كوردستان العراق، وما تمتلكه قياداته من شبكة علاقات إقليمية ودولية قوية، يجب أن تكون حاضرة كداعم ومساند للحركة الكوردية في سوريا، ليس فقط في إيصال صوتهم للمحافل السياسية، بل أيضاً في تقديم المشورة والخبرة والاستفادة من دروس التجربة السياسية للإقليم.
أما في ختام هذا المسار، فإن المسؤولية التي تضعها اللحظة السياسية الراهنة على عاتق المؤتمر المزمع انعقاده، وعلى الوفد الكوردي الذي سيخرج عنه للتوجه إلى دمشق، ليست مجرد مهمة تفاوضية عابرة، بل استحقاق تاريخي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فهذا الوفد سيحمل على كتفيه طموحات وتطلعات الشعب الكوردي الذي طالما كافح في سبيل حقوقه، وعليه أن يتحرك برؤية واضحة وخطاب متزن، ينطلق من مبدأ أن الحقوق لا تُمنح بل تُنتزع بثبات الموقف ورجاحة العقل، ومرونة السياسة دون التنازل عن الثوابت.
وإلى جانب الرصيد السياسي والمعنوي، لا يمكن إغفال أن الكورد اليوم يمتلكون على الأرض قوة عسكرية فاعلة، ويسيطرون على مساحة جغرافية واسعة، كانت ثمرة نضال طويل وتضحيات جسام. هذه الأوراق، إن أُحسن إدارتها بعقلانية وبُعد نظر، يمكن أن تتحول إلى أدوات قوة مؤثرة على طاولة الحوار، وتضعهم في موقع الشريك الذي لا يمكن تجاوزه في صياغة مستقبل سوريا.
بل وأكثر من ذلك، فإن الدور الذي لعبه الكورد في محاربة الإرهاب، ودفاعهم عن القيم الإنسانية في وجه أخطر التهديدات التي عرفتها المنطقة والعالم، أكسبهم احترام الشعوب وتعاطف المجتمع الدولي، وعزز مكانتهم السياسية بين القوى الإقليمية والعالمية. هذا الإرث النضالي المشرف، وما رافقه من شبكة صداقات وتحالفات سياسية، يمثل اليوم رصيداً إضافياً يجب استثماره بحكمة، ليكون درعاً يحمي تطلعاتهم ورافعة تدفع قضيتهم نحو آفاق الحل العادل، ضمن سوريا موحدة تقوم على الشراكة الكاملة واحترام حقوق كافة مكوناتها.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً