فاجأت السيطرة السريعة لقوات عملية (ردع العدوان)، التي شكّلت هيئة تحرير الشام عمودها الفقري، على دمشق الجميع، لكن قبل ذلك وبينما كان الهجوم لا يزال في حلب، استقرأ قياديٌّ كوردي مطّلع الوضع مبكّراً، وسارع إلى التحرّك وخلقَ أرضية للتفاهم والتهدئة بين هيئة تحرير الشام و قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مُهِّدَت في مدينة حلب، وذلك من خلال حماية الأحياء الثلاثة ذات الغالبية الكوردية والمسيحية (الشيخ مقصود، الأشرفية، والسريان). تمّ ذلك بفضل الجهود الحثيثة والمتواصلة التي بذلها نيجيرفان بارزاني رئيس إقليم كوردستان مع تركيا ذات النفوذ الكبير في الملفّ السوري وبالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية المعنية مباشرةً بشأن قوات سوريا الديمقراطية (قسد). أسفرت هذه الجهود عن الحفاظ على السلام والاستقرار في مدينة حلب، وتجنيب الكورد والمسيحيين ويلات الحرب والنزوح، والأهمّ من ذلك تمّ تفادي الاشتباك بين قوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام، وقد شكّل عدم مواجهة هاتين القوتين لبعضهما البعض بداية هذه التغيّرات الكبرى.
كمّا وفّرت هذه الجهود المبذولة لدى تركيا والتفاهم بين قسد والهيئة خروجاً آمناً، رغم بعض الاعتداءات والانتهاكات، لأكثر من مئة ألف نازحٍ عفريني من منطقة الشهباء وتوجّه معظمهم إلى مناطق الإدارة الذاتية، ولولا ذلك، كانت مخاطر جسيمة تهدّد حياة هؤلاء النازحين أثناء اقتحام قوات (الجيش الوطني) للمنطقة. وكان لكلّ هذا تأثيرٌ جوهري على العملية التي بدأت من حلب ووصلت إلى دمشق.
كان نيجيرفان بارزاني هو القائد الذي استطاع بحهوده السلمية مع تركيا و والولايات المتحدة و الدول الغربية الاخرى فتح باب الثقة بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي، التي أفضت إلى خلق معادلة منع الاشتباك بين القوّتين، وكذلك منع حدوث هجوم عسكري تركي مباشر وواسع، مثلما خلق أجواء من الهدوء في الأحياء الكوردية الثلاثة وفي مدينة حلب بأكملها، مما انعكس إيجابيًا على كامل مساحة سوريا. وكان من شأن ما بدأ في حلب، وما استقر في سوريا (قبل الهجوم على العلويين)، وتشجيع نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كوردستان المستمرّ لمظلوم عبدي على الذهاب إلى دمشق وتحسين العلاقات مع السلطة الجديدة في دمشق، أن عزّز بشكل كبير أرضية عملية السلام في تركيا أيضًا.
لقد لعب نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كوردستان، بجهوده هذه دورًا محوريًا في تحقيق السلام بالمنطقة التي كانت تتهدّدها مخاطر جسيمة تضعها على حافة موجة عنف كان من شأنها أن تُلحق بشعوبها ويلاتٍ ومآسٍ. وفي الوقت نفسه، فإن استقبال الرئيس مسعود بارزاني مظلوم عبدي ودعمه له، جعل المجلس الوطني الكوردي في سوريا والقوى السياسية الأخرى ومواطني كوردستان سوريا يدعمون خطوات مظلوم عبدي، ويمنحوه قوة سياسية كوردستانية وجماهيرية كبيرة. كما أنّ هذا اللقاء التاريخي قد وضع ما يشبه خارطة طريق واضحة المعالم للتعامل مع الوضع السوري الناشئ والدور الكوردي فيه، وذلك لما يحظى به الرئيس بارزاني من مكانة دولية وإقليمية و كوردستانية، ولما يتمتّع به من خبرة و رؤية عميقة لأوضاع المنطقة ومعادلات التحوّل فيها.
لقد كان دور الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا كبيرًا ومؤثرًا على أحداث كوردستان سوريا والمنطقة، لكن الدبلوماسية الهادئة التي مارسها نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كوردستان لعبت دورًا محوريًا وتكميليًا لمنع نشوب الحرب ودفع الأمور على طريق السلام.
في المكالمات الهاتفية التي أجريت بين نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كوردستان والقائد العام لقوات بيشمركة كوردستان، والجنرال مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، لم يجرِ الحديث عن الحرب، بل جرى التركيز فقط عن سبل بناء السلام وإقامة العلاقات السلمية. لقد اختصرت محادثات نيجيرفان بارزاني مع مظلوم عبدي في التالي: لقد انتهت مرحلة الحرب، وهناك فرصة لفتح باب واسعٍ للسلام في المنطقة، والذهاب إلى دمشق والتواصل المستمر مع أحمد الشرع الرئيس السوري الجديد أمرٌ ضروري، فدستور سوريا سيُكتب في دمشق وسيُقر هناك أيضًا، وحقوق الكورد يجب أن تُثبت في دمشق، لذلك يجب على الكورد أن يتوافقوا في كوردستان سوريا وأن يتّحدوا في دمشق.
يُنظر إلى الاتفاق المُبرَم في العاشر من آذار من هذا العام بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي على أنّه اتفاقٌ مبدئي وإطاري للدخول في حوار موسع وطويل، لكنه خلق أرضية مناسبة للعمل السياسي المشترك لجميع الأطراف، كما أنّه غيّر في المزاج المجتمعي السائد في مرحلة ما قبل التوقيع على الاتّفاق، إذ تراجع خطاب الكراهية والحثّ على العنف لحلّ المشكلات وظهر جدوى الحوار والتفاهم كسبيل لحلّ القضايا، وانعكس هذا على مستوى القبول المتبادل بين مختلف القوميات والمكوّنات السورية.
لقد أثار الإعلان المفاجئ عن اتّفاقية عبدي-الشرع نوعاً من التوجّس وربّما الاستياء في صفوف بعض القوى السياسية في كوردستان سوريا، ولا سيما المجلس الوطني الكوردي، المنخرط في حوارات ولقاءات بهدف التوصّل إلى اتّفاقٍ مع حزب الاتحاد الديمقراطي وحلفائه. لكنّ الاتصال الهاتفي الذي أُجري اليوم بين الرئيس مسعود بارزاني والجنرال مظلوم عبدي وضع الأمور في نصابها، ولا شكّ أنّه سيحثّ الأطراف الكوردية على تسريع جهود التوافق على رؤية سياسية موحّدة لحلّ القضيّة الكوردية في سوريا، وتشكيل وفدٍ موحدٍّ، لا بدّ أن يضمّ الكفاءات المؤهّلة لخوض عملية التفاوض مع دمشق. يزداد رهان قسمٍ كبيرٍ من السوريين على الكورد للسير بسوريا نحو تجربة ديمقراطية، ويقدّم الأطراف الدولية الأكبر تأثيراً الدعم للكورد ووحدتهم ودورهم في سوريا، التي فُتِح باب عاصمتها الآن أمامهم، ولذلك من الضروري أن يثبتوا حضورهم القويّ والفاعل فيها بما لا يمكن لأيّ طرفٍ إقصاؤهم أو تهميشهم بعد الآن.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً