تجلت ملامح فقه الميزان وتطبيقاته العلمية العملية في إدارة الأزمة وفي بناء تدين متوازن، عبر اكتشاف ما هو دنيوي وما هو مقدس، ورسم الحدود الخاصة بكل منهما، وبيان المجالات التي يتحقق فيها الدنيوي، والمجالات التي يتحقق فيها المقدس، والآثار الناجمة عن اختلاطهما واجتياح أحدهما للآخر، فلو ابتلع المقدسُ الدنيوي يحتجب العقل ويدخل حالة سبات، ويضيع الإنسان في ظلمات بعضها فوق بعض، ولو ابتلع الدنيوي المقدسَ تحتجب الروح وتدخل حالة سبات، ويضيع الإنسان في القلق واللامعنى.
تسري روح المصلح الديني الغيور القادر على الجمع بين ضياء الوحي وهدايته والفطرة السليمة وبين الحياة العقلية والروحية والأخلاقية للناس، في علي القره داغي الذي تنشد رسالته: فهم النقل الصحيح وإيقاظ العقل، وإحياء الروح، وإثراء الأخلاق وفق فقه الميزان، وفي جانب آخر حماية العقل من أن تستهلكه الخرافات، وما تفضي إليه الخرافات من أوهام وتشوهات في رؤية العالم.
كل هموم القره داغي في زمن كورونا ترمي إلى: بناء الإيمان وتمتينه، لا تبديده وتهديمه. ثم حماية الناس من التمزق والعبثية والضياع في دروب التيه والخوف والقلق. فالوعي المبني على الإيجابية.
إنها خيارات مريرة... حيث لا ينفع أبداً في هذا العالم المصطف المكفهر موقف عاقل فقهي إنساني بل المطلوب خطاب درويش أو ظاهري. ففي شهادة فقهية رائدة أعلن القره داغي التزام الفقه بالقرار الطبي، فدعا إلى إيقاف حضور الجمع والجماعات، وقال ما نصه "يؤلمنا أن يمر على أمتنا يوم الجمعة ولا تقام فيه صلاة الجمعة، ولكننا معذورون شرعاً، ولنا أجرها إذا نويناها وأعددنا لها كما ورد بذلك أحاديث صحيحة، والذي أطالب به هو ما يأتي:
- النية مع الإعداد، بأن تجهز مصلى داخل البيت، نجهز أنفسنا قبل وقت الأذان بفترة مناسبة فنغتسل غسل الجمعة، ثم نجلس في المصلى، ونقرأ سورة الكهف وما شاء الله تعالى من القرآن والذكر والدعاء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- ثم بعد سماع الأذان يقوم الوالد أو أحد أفراد الأسرة بموعظة تذكر بالله تعالى وقدرته ورحمته مع التضرع إلى الله تعالى.
- ثم تقام صلاة الظهر أربع ركعات"، إ.ه.
إن إلقاء خطاب مقنع أو تحضير عرض متميز يعد محنة ويعد عذاباً في عالم اعتاد على التراشقات والتلاومات فقد هاجم كثيرون من المحسوبين على الصف الإسلامي فتاوى تعطيل الجمع فرد القره داغي الرد العلمي المبني على التحضير الدقيق والتطبيق العلمي والعملي لفقه الميزان وقد تبنى مسلمون في كل أنحاء العالم فتاواه فكان بمثابة الأب الفكري والفقهي للمسلمين في العالم حيث صارح وصرح بوضوح إن "شعائر الله ليست للعبث بها" (فتوى إقامة الصلوات إلكترونياً نموذجاً) فمن المؤلم أن تُحرف مقاصد البلاء من التضرع إلى الله تعالى والتيسير ورفع الحرج من الشارع إلى العبث بالعبادات والشعائر المحضة، كما أن من المؤسف حقاً أن يتصدى للفتوى من ليس أهلاً لها، كما حذر منه رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم. فقال: "إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم ويبقي في الناس رؤوساً جهالاً يفتونهم بغير علم فيَضلون ويُضلون" (رواه مسلم).
حدد القره داغي الهدف الفقهي من مشاركاته المكثفة: تثبيت عقول ونفوس الناس. تحرير معنى الديانة. أمن وسلامة المجتمعات.
وانتهج العرض المبسط عبر فتاواه المصورة على صفحته الفيسبوكية الرسمية وعبر بياناته وبين أن الفكرة الأساسية لفقه الميزان تحقيق مقاصد القرآن العليا في حماية الإنسان وحفظ الديانة واستشهد بالأدلة والدراسات والإحصائيات لإثبات فكرته.
ظهر موقفه الفقهي في زمن تنتصر دوماً فيه الانفعالية والسلبية والتهشيم... إنه تحد مرير ومستمر... ولكن رفض القره داغي إلا أن يكون هناك حيث العقل والدين والإنسان.
من الواضح تماماً أن الكثير من الزملاء العلمانيين ومن الوسط الديني غير مبتهجين بفتاواه الإصلاحية وموقفه الميزاني الفقهي، والتعليقات السلبية أكثر من الإيجابية... وهذا الأمر لا يسعد بالطبع، ولكنه لا يحملني أيضاً على اختيار مواقف سلبية لا تنفع الناس وتعزز القطيعة والكراهية، فلا شك في أن الانفعال الزائد والتوتر وكافة أشكال الضغط النفسى الشديد لا تؤثر فقط على الشخص المنفعل فحسب وإنما تمتد إلى من حوله بالأمراض النفسية والصحية، فالشخص المنفعل أثناء الحديث يخرج من لسانه وأنفاسه جزيئات ضارة يمكن أن تصيب كل من حوله بالعلل وذلك وفقاً لتجربة السم في اللسان للدكتور (ديفيد سوزكي).
أثبت سوزكى (وعدد من الباحثين) سمية الجزيئات الصادرة من اللسان عند الغضب بتجربة عجيبة، حيث قاموا بوضع قارورة أمام إنسان غاضب ينفث عن غضبه بالكلام لمدة ساعة فوجدوا أن تلك الجزئيات قادرة على قتل 80 حيواناً من حيوانات التجارب، وهو ما يوضح خطورة الحديث مع شخص منفعل فما بالنا بالشخص نفسه وما يصيبه من أمراض جراء الغضب والتوتر.
كما قام علماء بريطانيون باستخدام أشعة الدماغ المتقدمة لرصد التغيرات المخية حال غضب الإنسان فوجدوا أن هناك ثلاثة أماكن تضطرب في الدماغ أثناء الانفعال هي منطقة العدوان، المحاكمة، أماكن التخطيط وهى أمور في منتهى الخطورة تجعل الإنسان يحكم على الأشخاص بصورة خاطئة وتدمر علاقاته بالآخرين ويمكن أن تدفعه للتخطيط لأذى المحيطين أثناء الغضب.
بعيداً عن أي لغة كيدية أو شتائمية أو جنائزية أو مواقف منفعلة، كانت مواقف القره داغي تمثل مصل مناعة نفسية وتتمثل النصح والحكمة وفقه الميزان ويجسد النص النبي الحواري عندما سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ الجنةَ، فقال: تقوى الله، وحُسْنُ الخلق، وسُئِلَ عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النارَ، فقال: الفم والفرج" (رواه الترمذي).
لم يتحدث علي القره داغي بلغة شامتة ولم يستخدم سيفاً خشبياً من الهواجس والمواعظ بل اعتلى منصة التنوير والتحرير العلمي... كنت أتابع ما يدلي به من فقه وحكمة وميزان دقيق في التعامل مع الوباء كورونا ولفت نظري في فقهه وخطابه المعالم الآتية:
البعد الإنساني: فقد تجاوز إحساس الألم الخاص فلم يحصر شعوره ومشاركته العاطفية ببلاد المسلمين بل بكل بلاد العالم وبالإنسانية جمعاء وهذا ما قاله على قناة الجزيرة.
البعد الإصلاحي والتعاطي الإيجابي مع البلاء: فقد كان من أوائل الفقهاء الذين دعوا إلى توبة الحاكم السياسي وتحصين المجتمع من الفيروس بإشاعة روح الإيجابية والصبر والعفو ورفع الظلم وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وتسييد روح التسامح وشرعة حقوق الإنسان. يقول القره داغي:
"علينا أن نقرأ المصائب قراءة إيجابية تفاؤلية: إن من سنن الله تعالى إرسال البلايا والأوبئة لتذكير الناس، وتوجيههم نحو العدل والإنصاف واحترام حقوق الإنسان والبيئة وبقية المخلوقات، وليعلموا بأن الأرض ليست لهم بل لجميع المخلوقات، يقول الحسن البصري في عدة الصابرين (183): "ما جرعتان أحب إلى الله من جرعة مصيبة موجعة محزنة ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر"، فعلينا التحلي بالصبر والتفاؤل والبشرى، وكان رسول الله وصحبه والتابعون له يقرأون المصائب قراءة رائدة ورائعة".
البعد الأخلاقي المتسامح في الجانب الاقتصادي: حيث لم تقتصر روح التسامح على السياسة بل امتدت إلى فضاء التجارة والاقتصاد فطالب الجميع بالإحساس بالمسؤولية الكبيرة والعجز الذي طال الجميع فبين أن رد العربون للمشتري خلق ودين في زمن الجائحة.
البعد الإيماني العلمي: ولم ينشغل كما انشغل بعض الزملاء العلمانيين في التهكم بالديانات بل طالب بالتزام الإرشادات والتعاليم الصحية لمقاومة هذا الفيروس وقرن ذلك بالإيمان وحسن التوكل على الله.
البعد الاجتماعي: المتمثل في التناصر الاقتصادي وبذل الصدقات وتفريج الكروب وإعانة المتضررين.
البعد الفقهي المقاصدي القرآني: وتجلى ذلك في تيسيره على الأطباء بالجمع بين الصلوات وأيضاً في غسل الميت بفيروس كورونا حيث بين أنه يسري عليه حكم الشهيد ولا غسل له... إلى غير ذلك من تعميم الابتهالات إلى الله والتي تحمل معاني جمة في تثبيت القلوب ومعنى التضرع الذي وسعه ليشمل موقف العلماء في الصدق والنصح والحكام في رفع الظلم وفي الحياة العامة في التناصر والتكافل وبالأخص من الأغنياء على الفقراء.
تعافى هذا الفقيه من أمراض الوهن والوهم والرهق التي يعيشها بعض الفقهاء ودعا إلى الصحة النفسية والعقلية والسلامة الإيمانية في وباء يجتاح كل غال ومقدس فإذا لم نعتصم بالعقل والدين فلن نسلم.
هذا المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس له أي علاقة بوجهة نظر شبكة رووداو الإعلامية.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً