لعب الكورد دوراً عظيماً وعجيباً في آن، في تغيير تاريخ المنطقة والعالم، وشكّل هذا الدور أحياناً مفارقات تاريخية كبرى لا يملك المرء إزاءها إلا أن يندهش إلى أبعد حدود الاندهاش. بادئ ذي بدء، نجد الدولة الميدية التي أسسها أجداد الكورد الحاليين قضت على الدولة الآشورية القوية في العام 612 ق.م، لتصبح الدولة الأقوى في المنطقة الممتدة بين اليونان والهند. هذا الحدث غيّر وجه التاريخ في ذلك الزمان، ولم تقم للآشوريين بعد ذلك قائمة، ويشير العهد القديم إلى ذلك
في أسفار إشعياء وإرميا وناحوم 1 ، أن آشور ستتحطم ولن تقوم لها بعد ذلك قائمة، وأن الميديين هم الذين بعثهم الرب لتحطيمها. لكن هناك فئات معينة من الجوار الكوردي تحاول عمداً -دون جدوى- أن تنفي صلة الكورد بالميديين، زاعمة أن الميديين فرس أو إيرانيّون (لإبعاد العلاقة الكوردية بهم)، وهؤلاء غير منتبهين إلى أن الأدلة التي تثبت الصلة الوثيقة بين الكورد والميديين دامغة، تشلّ أي إنكار، والميديون قطعاً ليسوا فرساً. فأحد مؤرخي الفرس وهو أحمد لواساني، في كتابه (الأخمينيون) يؤكد أن الفرس كانوا قبائل رحل يسكنون جنوب دولة ميديا، وكان الحضر منهم يسكن القرى2 ، ويؤكد ول ديورانت في كتابه قصة الحضارة، أن الفرس تعلموا كل شيء من الميديين، من أصغر إلى أكبر مسألة حضارية 3، ولم يكن للفرس حينذاك أي شأن، بل كانوا قبائل بدائية تابعة للميديين تعيش على الرعي والترحل، كما يشرح ذلك المؤرخ الفارسي أحمد لواساني. من الجدير بالذكر أن الميديين هم أول من بدأ بالمراسم والأتيكيت بين الرعية والطبقة الحاكمة (مثلاً عدم رمي البصاق في الأماكن العامة وبحضور أصحاب الدولة، وتخصيص نوعية اللباس بحسب المناسبة كاللباس الخاص بالأفراح واللباس الخاص بالعزاء واللباس الخاص بالدولة ...إلخ. كما أنهم نوّعوا في نوعية الأطعمة ونوعية تقديمها ومناسباتها وأوقاتها).
بعد أن قضى كورش الأخميني على الدولة الميدية، بالتعاون مع الميديين أنفسهم، بسبب ظلم الإمبراطور الميدي هستياك لرعيته (أعدَم وقطّع ابن هرباجس [مساعده] إرباً إرباً، ثم أجبر هرباجس أن يأكل لحم ابنه المقتول!)؛ فقام هرباجس يتعاون مع كورش الأخميني (حفيد هستياك من جهة أمه)، للقضاء على هستياك، فكان له ما أراد 4، حاول الميديون بعد ذلك استعادة ملكهم ولكن دون جدوى، حتى أغتيل آخر مُطالبيهم بالعرش قرب أربيل على يدي كورش، ولم تقم لأحفاد الميديين بعد ذلك قائمة، إلى أن قامت الإمبراطورية الساسانية في العام 224 للميلاد،
حين دخلت مع الدولة الفارسية الإشكانية في صراع وجود، حسمه الساسانيون بانتصار حاسم وحطموا الدولة الإشكانية نهائياً، وسمّوا عاصمتهم ماديان، كتعبير لثأرهم من الفرس الذين سطوا على الحكم الميدي. وهذا يشكل نقطة الوعي لدى الساسانيين تجاه أنفسهم وتاريخهم، وتجاه الآخر المعادي، وكأنهم بإعادة الهوية الميدية يعيدون الأمر إلى مجراه الصحيح وإلى من هو أحق بالحكم (شرعية السلطة). من هنا يبدو أنهم عاملوا الإشكانيين كامتداد للأخمينيين، واعتبروا أنفسهم ورثة الميديين، ويبدو أن هذا الوعي كان موجوداً لدى الأشكانيين أيضاً، إذ بعث الملك الإشكاني أردوان برسالة إلى أردشير (أول الملوك الساسانيين)
يهدده قائلاً "أنت أيها الكوردي، أيها المتربي في خيام الكورد، من أين لك الحق في أن تدعي التاج الملكي الذي وضعته على رأسك" كما يروي مؤرخون كبار مثل الطبري 5 ، وسمى الساسانيون مدنهم بأسماء كوردية، وحياً كوردياً في عاصمتهم، ثم أعادوا اسم ميديا بأن جعلوا اسم عاصمتهم ماديان (الميديون)، حوّرها العرب إلى المدائن، وهي تقع جنوب شرق بغداد حيث موطن الكورد الفيليين إلى الوقت الحاضر، ولو كان الساسانيون امتداداً للفرس، لكان الأحرى إطلاق لقب أخميني على عاصمتهم وليس اسم ميديا. هناك أدلة ومعطيات كثيرة تثبت أن الساسانيين كورد وليسوا فرساً، ولكن في غياب دولة كوردية تحافظ على تاريخ وتراث الكورد، قام الآخرون بالسطو على تاريخهم كما سطوا على أرضهم وثرواتهم 6. الساسانيون حكموا لأكثر من أربعة قرون، وغيروا العالم القديم قبل الإسلام، وظل تراثهم يؤثر في القرون الجديدة في العهد الإسلامي.
وفي المرحلة الأموية، ظهر القائد الشهير أبو مسلم الخراساني الذي قضى على الدولة الأموية وأسس الدولة العباسية. فإليه يعود هذا الجهد، ولم تقم للأمويين بعد ذلك قائمة إلا في الأندلس، على يد بقيتهم عبدالرحمن الداخل. يقال إن الشعراء هم مؤرخو عصورهم. حين قضى أبو جعفر المنصور على أبو مسلم الخراساني، أنشد شاعر بلاطه أبو دلامة أبياتاً في قدح أبو مسلم ونسبه، احتفالاً بمقتله على يد أبو جعفر المنصور:
7أبا مجرمٍ أفي دولة المنصور حاولت غدره ... ألا إن أهل الغدر أباؤك الكورد
وهناك إشارات إلى كوردية أبو مسلم الخراساني لدى المؤرخين مثل إبن خلكان وغيره.
رغم صراحة أبو دلامة ووضوحه وتسجيله لهوية أبو مسلم الخراساني، لكن هناك من يريد عبثاً إنكار هوية أبو مسلم الكوردية وإضفاء غيمة التضليل على هويته. واللافت أن شاعراً عربياً مشهوراً وهو مالك بن ريب كان في خراسان، وكتب قصيدة يرثي فيها نفسه بسبب البعد عن موطنه في بادية العرب، يشير فيها إلى جغرافية كوردية ضمناً وبوضوح (أقول وقد حالت قرى الكورد بيننا... جزى الله عمراً خير ما كان جازياً) 8، ومن هنا ندرك أهمية الهوية والجغرافية الكوردية المذكورة في التاريخ، لكنها مبثوثة ومنتشرة في مصادر شتى، نحتاج إلى جهد ومشقة لجمعها. يأتي بعد أبو مسلم الخراساني في الأهمية، قائدٌ كوردي آخر وهو صلاح الدين الأيوبي الذي هزم الأوروبيين في حطين، وأسس الإمبراطورية الأيوبية الكوردية التي دامت 78 عاماً، وتقوم على أنقاضها اليوم 13 دولة إقليمية قومية. طبعاً، فإن صلاح الدين أكثر شهرة في كورديته من أن يُنكر. لكن حتى مع هذا، فهناك فئات كثيرة حاولت وتحاول إنكار كوردية صلاح الدين، ومن بين هذه الفئات يأتي حزب البعث العربي الإشتراكي، وعلى الأخص عزت الدوري الذي حاول أن يثبت الأصل العربي لصلاح الدين، ونفي كورديته علناً 9 . حرر صلاح الدين القدس في معركة حطين الشهيرة، حيث هزم الجيوش الأوروبية، وكان قبل ذلك قد أزال الحكم الفاطمي من مصر. ثم بعد ذلك يأتي في الأهمية، على مستوى إقامة الدولة والتمدد، الشيخ صفي الدين الأردبيلي، وهو فقيه شافعي وعالم وشاعر ومتصوف كوردي من شرق كوردستان (كوردستان إيران) 10. فقد تحول حفيده خواجه علي الصفوي إلى المذهب الجعفري الإثني عشري، وتحول حفيد خواجه علي إلى أول حاكم للإمبراطورية الصفوية، ألا وهو إسماعيل شاه الصفوي. والمفارقة العجيبة جداً هو أن صلاح الدين الكوردي حوّل مصر إلى دولة سنيّة، وقضى على الحكم العبيدي الشيعي فيها، بينما حوّل إسماعيل شاه (الصفوي الكوردي)
إيران من بلاد سنيّة إلى مملكة شيعية إثني عشرية، دامت 235 عاماً (من العام 1501 إلى 1736). في غياب مؤسسات تاريخية كوردية ومراكز دراسات، تطمس تلك الفئات التي ذكرناها هوية الدولة الصفوية، وتحاول بطريقة جنونية ومضحكة إيجاد أصول من أهل بيت النبوة للشيخ الكوردي صفي الدين الأردبيلي، لنزع صفته الكوردية، وأحيانا تقوم بتشويه هويته الكوردية لأن أبناءه وأحفاده تزوجوا من نساء تركمانيات، وأحيانا أخرى يذكرون أن "الشيخ صفي الدين من أردبيل وأن هذه المدينة يسكنها الفرس والعرب والكورد والتركمان"، كمحاولة لإخفاء هويته القومية 11، وهذه محاولة مكشوفة لتشويه هويته القومية كما هي في الواقع.
من المفارقات العجيبة، نرى أردوان الأشكاني الفارسي يستنكر على أردشير الساساني الكوردي التاج الملكي، لأنه كوردي، وبنفس النبرة هدد السلطان سليم الأول العثماني منافسه الكوردي إسماعيل شاه الصفوي، أنه لا يحق له إدعاء المُلك، وبعث مع رسالته إلى إسماعيل شاه مسبحة وسجادة وكشكولاً، مذكراً إياه بأصله الصوفي، أي بجده الأكبر الكوردي الشيخ صفي الدين الأردبيلي الشافعي، والأغرب، أن مسعود بارزاني الذي أعلن الاستفتاء على استقلال كوردستان في العام 2017،
هدده الرئيس التركي أردوغان (إسمه مطابق لإسم الملك الأشكاني أردوان) بأنه لا مجال لإقامة دولة كوردية، وأن مسعود بارزاني يفتقر إلى إمكانية ذلك 12، ومن المفارقات الأخرى الغريبة أن قادة جيش إسماعيل شاه الصفوي نصحوه أن يبادر بالهجوم على الجيش العثماني من الخلف قبل تمركز دفاعاته، لتعطيل مفعولية المدافع والأسلحة النارية، نظراً لتفوق الجيش العثماني في العدد والعدة، لكن إسماعيل شاه رفض ذلك واعتبره مخالفاً لقيم الفروسية والشجاعة والنبل. هذا ما تكرر مع الزعيم الكوردي ملا مصطفى بارزاني، كما يروي الكاتب العراقي المشهور هادي العلوي 13 ، حيث اقترِح على بارزاني قصف القصر الجمهوري في بغداد عبر الزوارق في نهر دجلة، لكن بارزاني رفض هذا المقترح بشدة، واعتبره منافياً لقيم الرجولة والشجاعة والنبل، وعلى نفس المنوال، ذهب الزعيم الكوردي الإيراني عبدالرحمن قاسملو، أن قواته لا تقوم بأعمال إرهابية، كقتل المدنيين وخطفهم وخطف الطائرات أو تفجير الأماكن العامة، في سبيل القضية الكوردية كما تقوم بذلك منظمات ثورية في الأماكن الأخرى في العالم.
أعداء الكورد، لم يتورعوا في استخدام شتى الحيل للقضاء عليهم. فالسلطان العثماني محمود الثاني اغتال الأمير الكوردي محمد باشا الرواندزي غدراً، بعد عودة الأمير من إسطنبول، إذ نصب له محمود الثاني كميناً في طرابزون في العام 1836 تمكن فيه من قتل الأمير الكوردي 14، وفي وقت كان الكورد مستعدين للتفاوض مع الحكومة في العراق، أقدم حزب البعث الحاكم على محاولة اغتيال ملا مصطفى بارزاني بشتى الطرق، ومنها تفخيخ رجال الدين الذين بعثهم النظام البعثي كوفد مفاوض مع بارزاني، ومن جهة إيران، طلب النظام الإيراني من قاسملو الدخول معه في مفاوضات. لكن النظام كان قد نصب له فخاً في فيينا، واغتالوه غدراً في أول أيام عيد الأضحى في 13 تموز 1989، جنباً إلى جنب وسيط المفاوضات، المفكر الإسلامي الكوردي فاضل رسول. وهذه الأمثلة الثلاثة، ليست سوى وشل من بحر الغدر والخيانة الذي تعرض له الكورد من أنظمة الجوار أو دول الطوق الرباعي حولهم.
حين سقط الحكم الصفوي في إيران على يد الأفغاان 15 ، ثم تلت فترات من الفوضى والتشرذم والضياع لعقد ونصف، خرج من بين الأنقاض كريم خان زند الكوردي وبنى إيران من جديد، وأسس في الأثناء حكم السلالة الزندية الكوردية الذي دام فترة 44 عاماً (1750-1794)، شهدت فيها إيران إزدهاراً كبيراً وتقدماً عظيماً. انتصر الزنديون بقيادة محمد خان الزند على العثمانيين، ووضعوا 16حداً لهم لم يقدروا على تجاوزه في مناطق كركوك. هناك أيضاً طمس متعمد، لإخفاء الهوية الكوردية للزنديين ودولتهم العظيمة التي أحيت إيران من رماد. الزنديون هم كورد فيلييون .
قبل ذلك وفي أوج الصراع العثماني الصفوي، برز العالم والفيلسوف والشاعر الكوردي إدريس البدليسي الذي كان أبرز قائد عسكري للجيوش العثمانية. يعود فضل الانتصار في معركة تشالديران عام 1514 إلى إدريس البدليسي، حيث استطاع أن يستميل جلّ القبائل والأمارات الكوردية إلى جانب العثمانيين، وبذلك ضمن السلطان سليم الأول انتصاره الساحق على الشاه إسماعيل الصفوي 17 ، ولولا إدريس البدليسي ووقوف الكورد إلى جانب الدولة العثمانية، لما كان بمقدور العثمانيين الانتصار في تشالديران، ولو وقف الكورد وإدريس البدليسي إلى جانب الصفويين، لكان الانتصار دون شك من نصيب الصفويين ولأمسى سليم الأول في ذمة التاريخ، نظراً لوجود عدد كبير من الكورد في هذه المعركة التي حدثت في مناطقهم، في وقت كانوا هم القوة الضاربة، والمفارقة، أن إدريس البدليسي كان وزيراً ومستشاراً وحاملاً للختم السلطاني لدى إسماعيل شاه الصفوي. لكن المؤسف أن قلة الحكمة والتخبط من قبل الشاه إسماعيل الكوردي الصفوي (بسبب حدث سنه والمغرضين من حوله من القزلباش)، تسببا في خسارة البدليسي، وبالتالي خسارة معظم القوات الكوردية التابعة للأمراء والزعماء الكورد، وفي النتيجة حدثت الكارثة الكبرى للصفويين في تشالديران. حيث استطاع إسماعيل شاه الهروب بسرعة بعد الخسارة الفادحة، وكان عمره حينها 27 عاماً، عاد إلى عاصمته تبريز الخاوية على عروشها منكسراً مهموماً، وقد وقعت زوجته (أو زوجتاه حسب روايات معينة) في أسر السلطان سليم الأول الذي دخل تبريز ونهبها. لم يقدر إسماعيل شاه على تجاوز هزيمته وانكساره، فعاقر الخمر حتى مات وله من العمر 37 عاماً، مخلفاً إبنه طهماسب ذا العشرة أعوام. كان إدريس البدليسي الوزير والمستشار الأكثر نفوذاً لدى السلطان سليم الأول، وألّف كتباً عدة، حوالي عشرة كتب، منها ما هو خاص بالسلطان العثماني وتاريخ الدولة ومنها ما هو شعر وفلسفة وطب 18(مثلاً، هشت بهشت في تاريخ الدولة العثمانية) .
في عهد الشاه الصفوي طهماسب، ظهر القائد والعالم والمؤرخ شرفخان البدليسي الذي منحه طهماسب لقب أمير الأمراء. كان طهماسب سلطاناً حكيماً وذكياً. لكن المؤسف هو وجود حاشية من القبائل القزلباشية التي كان يحركها الحسد والغيرة تجاه الأمراء الكورد، بسبب ما كانوا يتمتعون به من مزايا كانت تلك القبائل تفتقدها، بل لم تكن في الأساس سوى كتل عسكرية في مرافق الخدمات الشاهية الصفوية الكوردية التي حاولوا دوماً لوي عنقها لصالحهم. لكن بسبب كثرة أعدادها، وتزوج سلاطين الصفويين من نسائهم، تكاثر نفوذ القبائل القزلباشية، وكان هذا سبباً كبيراً لسقوط الدولة الصفوية وخرابها. في عهده حدثت ثورات وقلاقل كثيرة في منطقة كيلان بإيران، ولم يستطع طهماسب وقواده السيطرة على الوضع، ولكن شرفخان استطاع على رأس 450 مقاتلاً كوردياً أن يهزم السلطان هاشم الذي كان يقود حوالي 18 ألف مقاتل، فاستتب له الوضع ونشر العدل بين أهالي كيلان، وهو ما نال إعجاب طهماسب الذي شكر شرفخان كثيراً وكرّمه أيّما تكريم. في إثر ذلك منح طهماسب لقب أمير الأمراء لشرفخان. إخلاص شرفخان للشاه طهماسب رفع من قدره، بحيث دب الحسد والغيرة في نفوس القزلباش. لكن بعد موت طهماسب، وتولي إسماعيل ميرزا السلطنة الصفوية، تغيرت الأمور رأساً على عقب، حيث قامت فئات من القزلباش بإثارة إسماعيل ميرزا ضد شرفخان، وفي إثر ذلك تم إبعاده إلى منطقة شبه نائية، ويروي شرفخان أن إسماعيل، بسبب تعاطيه للأفيون في السجن لمدة طويلة، كان قد أمسى سريع التقلب في مزاجه، حيث قام بقتل البعض وبسجن بعض آخر، في ظروف موبوءة بالخوف والإضطراب والفساد بين أمراء وقواد الصفويين من القزلباش، وهذا ما أدى إلى عودة شرفخان إلى السلطنة العثمانية، حيث منحه السلطان مراد الثالث لقب أمير على بدليس وما جاورها، مع مكانة عظيمة لدى السلطان العثماني حيث أصبح قائد القوات العثمانية ضد الصفويين19 .
من الممكن أن نذكر شخصيات كوردية ساهمت وغيرت الكثير من العالم القديم والجديد ومنها زردشت، الإمبراطور الميدي كيخسرو، وعلماء كبار مثل ابن صلاح الشهرزوري، الحافظ العراقي، الدينوري، الماوردي، ابن خلكان، أبناء الأثير، أبي الفداء، المخترع العالم الجزري 20 ، زرياب 21، ابن تيمية، الشيخ أحمد الكوراني (أستاذ محمد الفاتح العثماني) 22 ، مولانا خالد النقشبندي، سعيد نورسي (بديع الزمان)،
الشيخ سراج الدين عثمان النقشبندي، محمد كورد علي، العلامة فؤاد سزكين، جلال الصالحي (عالم كوردي أمريكي أول مخترع للسيارة الكهربائية، وله اختراعات أخرى كثيرة، لكن الأمريكيين وخصوصاً أصحاب شركة جنرال موتورز سرقوا براءة الاختراع منه وسجلوا اختراعاته بأسماء أمريكيين. يستطيع القارئ الرجوع إلى المصادر أسفل المقال23) 24، وكذلك المئات من العلماء والشخصيات الأخرى من الذين لعبوا أدواراً عظيمة في تغيير تاريخ المنطقة والعالم، ويروي المستشرق الهولندي، مارتن فان بروينسن، أن علماء الكورد أوصلوا الإسلام إلى إندونيسيا وما جاورها من البلدان عن طريق طلابهم في مكة والمدينة المنورة 25 ، وهذا بعض تأثير الشعب الكوردي في تاريخ المنطقة والعالم، منذ غابر الأزمان وإلى اليوم.
ولكن المشترك الكبير في نظرة الآخرين إليهم من الأقوام المجاورة، هو محاولة طمس هويتهم وبصماتهم، لذلك يلجأون دوما إلى صناعة هويات أخرى غير كوردية للشخصيات والدول الكوردية المهمة في التاريخ. بل ووصل بهم التلاعب بالهوية الكوردية حداً، وضعوا الشبهات والشكوك حتى على اسم وعنوان الكورد وجذور الشعب الكوردي ووجوده كقوم، له لغته وثقافته وهويته المميزة، وما يحرك هؤلاء المشوّهين هو الحسد والغيرة، والرغبة العارمة في ضرب اعتزاز أجيال الكورد بمجدهم وتاريخهم، وبالتالي جعلهم مجاميع بشرية منكسرة ذليلة تنقاد لمحتليها. فالأتراك العنصريون الذين عجزوا عن الإتيان بمثل بديع الزمان سعيدي نورسي، نسبوه إلى أهل بيت النبوة لسلخ كورديته منه، وهذا الانتساب ينفيه نورسي في رسائله (رسالة محاكمات)، والأنكى، حذفوا كل كتاباته التي تحدث فيها عن الشعب الكوردي وكوردستان، ووضعوا مكانها مصطلحات أخرى كالشرق وشعبنا في الشرق، وهي مصطلحات لم يستعملها نورسي البتة 26 ، وهذا ما فعله الفرس مع الشيخ صفي الدين الكوردي جد الصفويين حيث نسبوه إلى أهل البيت، علماً أن الإنتساب إلى أهل البيت قبل 1400 سنة لا ينفي بالضرورة هوية الشخص القومية، لأن هويات الناس الراهنة لا تحددها عشرات القرون التي مضت لأن الناس يختلطون وينصهرون في ثقافات أخرى. أما زرياب، فقد نسبه عرب متعصبون إلى أصول أفريقية، لتضليل هويته الحقيقية، وهو ابن الموصل الكوردية تاريخياً. لكن المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها (شمس الإسلام تسطع على الغرب: تُرجم الكتاب بعنوان شمس العرب تسطع على الغرب!) تشير إلى هوية زرياب الكوردية، لأنها غير معنية بمحاربة الهوية الكوردية وأثبتت لزرياب هويته الحقيقية دون تزييف، كما أن كُتّاباً عرباً منصفين أقروا بكورديتة أيضاً 27 . كان لزرياب تأثير كبير جداً في الأندلس وعبرها في أوروبا، على مستوى الأتيكيت، الفنون ومنها الموسيقى، الموضة والملابس (الملابس وفق المناسبة)، الطبخ والأتيكيتات الأخرى التي هي دون شك تراث ميدي تبلور عبر الزمان في كوردستان، وانتقل إلى المناطق المجاورة والأبعد.
هناك علماء كورد قديماً وحديثاً، ساهموا ولعبوا أدواراً مهمة في تاريخ المنطقة. ومن أبرز هؤلاء في العصر الحديث هو الشيخ كفتارو والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (يذكرهم بعض العرب كعلماء سوريين من أصل كوردي لتضعيف هويتهم القومية)، وأحمد مفتي زاده وكوجر بيركار (عالم الرياضيات) إلخ، وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم.
إن الروح القومية الفارسية والتركية (والعربية بدرجة أقل)، مسكونة بالخوف والقلق من الوجود الكوردي. فالوجود الكوردي، بحد ذاته، يشكل تهديداً مبطناً لهذه الروح. إن طمس الحقائق حول التاريخ الكوردي وأمجاده، يأتي وفق برنامج وتخطيط محكمين، لضرب الروح القومية للشعب الكوردي، وضرب عنفوان وهمة أجياله التي استطاعت عبر وجودها المسكون بقوة فولاذية، ليس أن تصمد فحسب أمام المشقات والعذاب والصعاب، بل وأن تشق طريقها نحو الإنجاز والمجد، ليس لنفسها فقط وفي حدود جغرافيتها، بل إن دورها وبصماتها في تغيير تاريخ المنطقة والعالم واضحة. فكثير من القادة الكبار، والمبدعين في شتى العلوم والفنون، في جغرافيات الجوار، هم أناس قدمتهم جبال وسهول كوردستان على مر العصور.
الهوامش:
1- سفر ناحوم (3): 1-19 : https://st-takla.org/pub_Bible-Interpretations/Holy-Bible-Tafsir-01-Old-Testament/Father-Tadros-Yacoub-Malaty/39-Sefr-Nahoum/Tafseer-Sefr-Nahoom__01-Chapter-03.html سفر أشعيا (13): 17-18 https://st-takla.org/pub_oldtest/Arabic-Old-Testament-Books/27-Isaiah/Sefr-Ash3eya-Chapter-13.html سفر إرميا 11:51 https://st-takla.org/pub_oldtest/24_jerem.html#51 و 51: 28-29 https://st-takla.org/pub_oldtest/24_jerem.html#51
2- أحمد لواساني، الأخمينييون، بيروت، 1960.
3- ول ديورانت، قصة الحضارة، مجلد 1: https://sources.marefa.org/%D9%82%D8%B5%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D8%B1%D8%A9_-_%D9%88%D9%84_%D8%AF%D9%8A%D9%88%D8%B1%D8%A7%D9%86%D8%AA_-_%D9%85_1_%D8%AC_13#.D8.A7.D9.84.D9.81.D8.B5.D9.84_.D8.A7.D9.84.D8.A3.D9.88.D9.84:_.D9.82.D9.8A.D8.A7.D9.85_.D8.AF.D9.88.D9.84.D8.A9_.D8.A7.D9.84.D9.85.D9.8A.D8.AF.D9.8A.D9.8A.D9.86_.D9.88.D8.B3.D9.82.D9.88.D8.B7.D9.87.D8.A7
4- المصدر السابق.
5- محمد بن جرير الطبري، تأريخ الطبري، ج 1، ص 478 http://shiaonlinelibrary.com/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A8/3474_%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%A8%D8%B1%D9%8A-%D8%AC-%D9%A1/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%81%D8%AD%D8%A9_478
6- محمد تقي جون، الدولة الساسانية فيلية، 2013. http://www.alnoor.se/article.asp?id=204379
7- 125. https://www.noorlib.ir/View/fa/Book/BookView/Text/19409/1/125
8- موقع صحيفة البيان، 2018. https://www.albayan.ae/five-senses/last-page/2018-12-08-1.3428953
9- تلفزيون العراق تقرير عن زيارة عزة الدوري قبر صلاح الدين الأيوبي https://www.youtube.com/watch?v=gEGzleq4qzY قارن بـ: علي الصلابي، صلاح الدين الأيوبي: أصوله ونشأته وحياته، 2020. موقع الجزيرة. https://www.aljazeera.net/blogs/2020/6/29/%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D8%A3%D8%B5%D9%88%D9%84%D9%87-%D9%88%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%AA%D9%87
10- Richard Tapper, Frontier nomads of Iran: a political and social history of the Shahsevan, Cambridge University Press, 1997, p. 39.
11- علاء الجوادي (سفير العراق في سوريا)، ملاحظات عن الشيخ صفي الدين الأردبيلي، 2016. http://sheikh-safialdin.com/%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%B8%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%B5%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B1%D8%AF%D8%A8%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D8%A7/
12- الرئيس التركي أردوغان، رسالة إلى مسعود بارزاني، 2017. https://www.youtube.com/watch?v=zCRYS52nc_c
13-هارفي موريس و جون بلوخ، لا أصدقاء سوى الجبال، ترجمة راج آل محمد، مراجعة و تقديم هادي العلوي، بيروت 1996. ص 125 (هامش كتبه هادي العلوي).
14- Eppel, Michael (2016), A People Without a State, The Kurds from the Rise of Islam to the Dawn of Nationalism, pp.43-56
15- سهيل طقوش، تأريخ الدولة الصفوية (في إيران)، دار النفائس بيروت، 2009. ص ص 228-247.
16- أحمد خليل، كريم خان الزند مؤسس الدولة الكوردية، موقع التأريخ الكُردي، 2017. https://www.historyofkurdish.com/archives/322 قارن بـ: الإنسكلوبيديا الإيرانية: https://iranicaonline.org/articles/zand-dynasty
17- علاقات الدولة – القبيلة: الإمبراطورية العثمانية والقبلية الكردية منذ القرن السادس عشر، ترجمة مسلم عبد طالاس، 2018. https://www.medaratkurd.com/2018/11/%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D9%8A%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7/
18- Spuler, Bertold, and M. Ismail Marcinkowski. 2003. Persian Historiography and Geography. Singapore: Pustaka Nasional. p. 68.
19- Michael Eppel, Routledge Handbook on the Kurds, 2018. https://www.routledgehandbooks.com/doi/10.4324/9781315627427-4
20- محمد حبش، أعلام من كردستان، نافذة على إسهام الأكراد في الحضارة الإسلامية، موقع جيرون، 2017. https://geiroon.net/archives/81341
21- علي سيريني، زرياب الكُردي خدم الأندلس وانتشر تراثه في أوروبا، إيلاف، 2009. https://elaph.com/Web/AsdaElaph/2009/6/449044.html
22- المكتبة الشاملة. https://shamela.ws/index.php/author/2515 قارن بـ: شريف عبدالعزيز الزهيري، الإمام شهاب الدين الكوراني، شبكة الألوكة، 2016. https://www.alukah.net/culture/0/108991/
23- مقابلة مع جيلو تيسلي (جلال صالحي). https://www.youtube.com/watch?v=1k6tZGiuflw&t=4s
24- علي سيريني، أول صانع سيارة كهربائية كردي عراقي، موقع الحوار المتمدن، 2018. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=618092&r=0
25- مارتن فان بروينسن، الدين في كُردستان، ترجمة راج آل محمد. 2015. https://www.medaratkurd.com/2015/07/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%B1%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A/
26- صدر كتاب باللغة التركية حول التحريف في رسائل النور: Huseyin S. Aytemur, Risale-I Nur’da Yapilan Tahrifat, Topkapi Istanbul 2015. وهناك فضل كبير للعالمين الكُرديين الملا محمد زاهد الكُردي و الأستاذ شكري أصلان في كشف تحريفات رسائل النور وقد قدم هذا العالمان مقالات بحثية و كتبا تشرح تفاصيل هذه التحريفات (شرح الأستاذ شكري أصلان لكاتب هذا المقال أنه قدم ورقتين في مؤتمرات خاصة برسائل النوروشرح كيف حدثت هذه التحريفات بسبب العنصرية التركية). يستطيع القارئ العربي الإستفادة من: عرفات كرم ستوني، سعيد النورسي المفترى عليه، 2010. http://www.soran.edu.iqhttps://www.rudaw.net/images/staff/Dr-Arafat-Karam/arafat29.pdf
27-زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون و كمال دسوقي، دار الجيل و دار الآفاق، بيروت، ط الثامنة، 1993. ص. 488. قارن بـ جميل أبو طبيخ، مذكرات بغداد: مراجعة في تأريخ الصراع الطائفي و العنصري، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، ط الأولى، 2007. ص. 307.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً