عدنان الباجه جي: عندما عرف السعيد مسبقا بانقلاب 14 تموز قال"دار السيد مأمونة".. والانجليز لم يحركوا اي ساكن

25-12-2021
معد فياض
الكلمات الدالة عدنان الباجه جي
A+ A-

عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين

تنشر رووداو على حلقات كتاب "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، فهذا الدبلوماسي الذي مثّل العراق في الأمم المتحدة لأكثر من 50 عاماً، وتبوأ منصب وزير الخارجية في الستينيات، ولد في بدايات القرن الماضي، ورحل في الربع الأول من القرن الحالي، وبهذا يكون بالفعل قد عاش بين قرنين مزدحمين بالأحداث العراقية والعربية والدولية.. كما التقى الملك فيصل الأول، مؤسس العراق الحديث، وعاصر كل رؤساء حكومات العهد الملكي ورؤساء الجمهوريات العراقية وصولاً إلى صدام حسين وما بعده. هذا الكتاب ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل هو صفحات بارزة من حياته، وتطلّب إنجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى أكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في أبو ظبي عام 2017.. أنا أسأل وهو يسرد بدقة.. كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي خلال أزمنة ودروب وأزقة تنطلق من حي السنك في شارع الرشيد، حيث ترعرع الباجه جي، ونذهب إلى مدن بعيدة، نجتاز بحاراً وقارات لنتتبع قصصاً وأحداثاً وشخوصاً وتواريخ.. تحدثنا عن السياسة والمدن والأزياء وأسلوب حياة المجتمع العراقي خلال مائة عام تقريباً.
 
الحلقة (15)

الدنيا مقلوبة ببغداد

كانت اجواء الانقلاب العسكري فجر يوم 14 يوليو(تموز) مفاجأة لعدنان الباجه جي ولعائلته ولجميع العراقيين الذين عاشوا سنوات حكم العهد الملكي بلا هذه المفاجآة. لم يعرف الباجه جي ما يفعله بعد سماعه للبيان رقم واحد للانقلاب بصوت العقيد عبد السلام عارف وقتذاك، فهو وعائلته أمام حالة جدية لم يتمرنوا عليها سابقا ولم يضعوها في حساباتهم، يوضح: "كان بيتنا في كرادة مريم وسط البساتين في منطقة شبه منعزلة، والشرطة التي وضعوها لحمايتنا تركتنا وذهبت، وسيارتي البونتياك كانت لا تزال تحمل لوحة أرقام أميركية، قلت: إذا خرجنا بها الآن سوف يهجم علينا الناس ظنا منهم بأننا أميركان أو إنجليز، لهذا طلبت من والدتي أن تبعث لنا سيارة والدي مع السائق (علي) الذي لازم والدي طويلا وهو رجل طيب، وقد قمت بتعيين 3 من أبنائه في حمايتي عندما عدت إلى بغداد بعد 2003".



ويشرح الباجه جي بالتفصيل حالة الهياج التي بلغها الناس يومذاك، يقول: "وصل السائق وقال: (الدنيا مقلوبة ببغداد) والناس هائجة، قلت له: أدري، لكننا يجب أن نترك هذا البيت، فصعدنا بسيارة والدي الـ(بيوك)، أنا وزوجتي وبناتي الثلاث ومربيتهم وعبرنا جسر الملكة عالية الذي صار اسمه فيما بعد جسر الجمهورية، كان الناس في جانب الرصافة، منطقة الباب الشرقي، حيث مركز بغداد، يملأون الشوارع، وعيونهم تتفحصنا بينما السيارة تسير بصعوبة بسبب الازدحام حتى إن وصولنا استغرق أكثر من ساعة إلى بيت والدي في حين أن هذه المسافة لا تستغرق سوى 10 دقائق في الظروف الاعتيادية، وبعد وصولنا إلى بيت والدي تم الإعلان عن حظر التجوال، ثم تم الإبلاغ عبر الإذاعة موظفي الدولة بالدوام في دوائرهم، فذهبت في اليوم التالي إلى وزارة الخارجية، كان هناك وزير جديد اسمه عبد الجبار جومرد، وهو من الموصل وكان يعرف والدي كونه في المعارضة ويعرفني أنا أيضا. ولجومرد قصة، فعندما تسلم البعثيون السلطة عام 1963 قالوا له سوف نعينك سفيرا فاختر أي بلد تريد، فرفض وقال أريد أن أكون قائدا للفرقة الأولى، فاستغربوا وقالوا له، أنت رجل مدني وليس ضابطا عسكريا حتى تكون قائد فرقة، فأجاب، لماذا تعينون الضباط سفراء والسفراء لا يحق لهم أن يكونوا ضباطا".

الدولة باقية

وحسب اعتقاد الباجه جي أن طلب النظام الجديد من الموظفين الالتحاق بدوائرهم كان تصرفا حكيما لاستمرارية الحياة الطبيعية، فالدولة لا تزال قائمة رغم تغيير نظام الحكم، يقول: "طلبني الوزير فذهبت لمقابلته، قال: (نريد تشكيل لجنة للنظر في شؤون الموظفين، فهناك موظفون ليس لهم ولاء للجمهورية ومن العهد الملكي ويجب إخراجهم)، قلت له: إنهم ليسوا سوى موظفين، وولاؤهم للدولة سواء كانت ملكية أو جمهورية، ويجب أن يكون التعامل معهم حسب الكفاءة، فأجاب بأن (هناك ضغوطا تطالب بإخراجهم)، وهذه الضغوط كانت من قبل الشيوعيين. أما أنا فلم يعترضوا علي وكانوا يعرفون أن توجهاتي الوطنية كانت تتعارض مع توجهات البلاط والحكومة، لكن الشيوعيين لا يثقون بشخص من طبقتي".
لم تكن في العراق وزارة باسم الإعلام أو الثقافة بل كانت هناك وزارة الإرشاد وحسب اياضاح الباجه جي:"كان وزير الارشاد في العهد الجمهوري صديق شنشل الذي طلب مني القيام بقراءة التقارير الصحافية التي يبعثها المراسلون الأجانب لوكالاتهم وصحفهم، إذ قال لي: (هناك عدد من الصحافيين الأجانب في فندق بغداد، ونريدك أن تذهب إلى هناك لقراءة تقاريرهم قبل إرسالها، فنحن لا نعرف ماذا يكتب هؤلاء ويرسلون لصحفهم ووكالاتهم)، بالفعل كنت أذهب من الساعة التاسعة من كل ليلة إلى فنذق بغداد الذي لم يكن هناك فندق راقٍ سواه وقتذاك، وأقرأ تقارير المراسلين الأجانب التي كنت غالبا ما أمررها وأعود إلى البيت عند الثانية صباحا، إذ كان حظر التجوال ليلا ساريا، لكن الحكومة زودتني ببطاقة عدم تعرض، ووضعت عريفا من الجيش لمرافقتي، واستمر هذا الوضع شهرا كاملا".

نوري السعيد شخصية وطنية

الباجه جي، وعلى الرغم من التصرف السلبي الذي بدا من قبل نوري السعيد، والمعاملة التي اعتبرها قاسية تجاهه بحذف اسمه من سجل موظفي الخارجية الاتحادية، فإنه يتحدث بحيادية عنه، يقول: "نوري السعيد والوصي عبد الإله والحكومات التي تعاقبت على حكم العراق كانت وطنية، لكن كانت هناك اجتهادات سياسية خاطئة، يعني تدخل الأمير عبد الإله في شؤون الوزارة، وهذا ليس من شأنه، وإصراره على إعدام الضباط الأربعة، وعدم السماح للملك فيصل الثاني الذي كان قد توج عام 1953 بممارسة دوره سوى توقيع الإرادات الملكية، فقد كان الوصي يستخدم صلاحيات الملك بتعيين أعضاء مجلس الأعيان وصلاحية إقالة الحكومة، وتعيين كبار الموظفين وحل مجلس النواب وهذا كان يتم بإرادة ملكية. حتى إن خلافه مع رئيس الحكومة رشيد عالي الكيلاني كان بسبب عدم توقيعه على إرادات ملكية ومراسيم ولهذا توقف عمل الحكومة والدولة".

ويستغرب الباجه جي من عدم أخذ حكومة السعيد أي احتياطات ضد احتمال قيام مثل هذا الانقلاب، على الرغم من أن "الناس كلهم كانوا يتحدثون في الشوارع والمقاهي عن قرب وقوع انقلاب، وأتذكر إن مدير مزرعة علي جودت الأيوبي في جلولاء،ديالى، والقريبة من الوحدة العسكرية التي كان فيها عبد الكريم قاسم، أبلغ الأيوبي بأن هناك تحركات مريبة، وأنه سمع كلاما من ضباط عن قرب وقوع انقلاب، وقد أوصل الأيوبي هذه المعلومات إلى عبد الإله، الذي أبلغها بدوره إلى نوري السعيد الذي قال جملته المشهورة: (دار السيد مأمونة) وأن (لا خوف على الدولة من الجيش فنحن نثق به). لكنني على يقين بأن الاستخبارات البريطانية، وهي عريقة، كانت قوية وفاعلة في العراق، وكانت تعرف بقرب حدوث شيء من هذا القبيل. وليس من المعقول أنهم لم يعرفوا شيئا عن الثورة لا سيما أن (الانقلاب العسكري) لم يكن على درجة عالية من السرية، ويبقى السؤال المهم هو: لماذا لم يبلغ البريطانيون الحكومة أو البلاط بهذه التحركات، لا ندري، فهم قالوا: نحن فوجئنا بما حدث".

وحسب اعتقاد الباجه جي، فإن الثورة "لم تحدث بسبب الأوضاع الاقتصادية، بل كان هناك استياء من سياسة الحكومة تجاه العرب والشعور العربي، خاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر، إذ لم يكن من المعقول أن يبقى العراق مرتبطا بحلف مع بريطانيا، وهي التي شاركت في هذا العدوان".

صورة للزعيم قاسم

كان ثمة استوديو للتصوير الفوتوغرافي في منطقة السنك في شارع الرشيد، هذا الشارع الذي أضحى وقتذاك القلب التجاري والحضاري لبغداد، حمل هذا الاستوديو اسم "ستوديو بابل" للمصور الأرمني جان، فقد أدخل الأرمن سحر التصوير الضوئي وحتى السينمائي إلى العراق، وإلى جانب جان كان هناك المصور الصحافي الرائد أمري سليم لوسينيان شيخ المصورين الصحافيين العراقيين الذي صور ملوك وزعماء العراق وجزءا كبيرا من أرشيف تاريخ العراق، والمصور الفوتوغرافي المعروف أرشاك (صاحب استوديو أرشاك)، ومصور الآثار كوفاديس ماركاريان.

عُرف المصور جان باعتباره المصور الخاص لملوك ورؤساء العراق، في ما بعد، إذ إن أولى الصور الرسمية للأمير عبد الإله والملك فيصل الثاني وعبد الكريم قاسم وعبد السلام وعبد الرحمن عارف وأحمد حسن البكر وصدام حسين حملت توقيع استوديو "بابل"، وقد بقي مجد هذا المصور متألقا حتى نهاية الثمانينات عندما افتتح له فرعا آخر أكبر وأكثر فخامة من الأول بكثير في الطابق الأرضي من بناية الاتصالات في السنك بشارع الرشيد أيضا.

ذات يوم من شهر يناير (كانون الثاني) عام 1982 جمعني لقاء صحافي مع المصور جان، وكان يضع في الواجهة الزجاجية لصالة العرض صورة كبيرة لصدام حسين، وسألته عن صور باقي الملوك والرؤساء، فقال: "أنا أتمنى أن أعرض كل الصور، بما فيها صورة عبد الكريم قاسم لأنه كان صديقي، لكنني كما تعرف الظروف لا أستطيع فعل ذلك".



ومثل حكّاء محترف، راح  جان يقص علي بعربية مشوبة بمفردات أرمنية عن "ضابط عسكري متواضع، لكنه كان قلقا باستمرار، كان يزورني في محلي القديم، القريب من بار ومطعم (شريف وحداد)، نشرب الشاي ونتبادل الأحاديث، وذات يوم نظر هذا الضابط، بعينين مفتوحتين على سعتهما، إلى صورة الملك فيصل الثاني وقال: (قريبا سوف تلتقط لي صورة مماثلة لهذه)، فعبّرت له عن استعدادي لالتقاط صورة له الآن إذا كان يريد، لكن الضابط أجاب بقوله: (لا، ليس الآن، بل عندما أصير رئيسا للعراق)". وترك جان وسط أسئلته وحيرته لتفسير ما يعنيه هذا العسكري.

لم يكن هذا العسكري سوى الزعيم عبد الكريم قاسم الذي أوفى بوعده وأرسل بعد ايام قليلة من انقلابه على الشرعية الدستورية في طلب جان ليلتقط له أول صورة رسمية في مكتبه بوزارة الدفاع، قال جان: "عندما دخلت عليه وجدته مبتسما فرحّب بي كثيرا وقال لي: (ها جان، شفت اشلون صرت رئيس العراق وانت أول واحد راح تاخذ لي صورة)".

قصر ملكي..أم جمهوري

وفي لقطة أرشيفية مصورة سينمائيا للأخبار التي كانت تعرض على شاشات السينما، وتلفزيون بغداد الذي بدأ بثه الرسمي عام 1956، يظهر العقيد عبد الكريم قاسم وهو يستعرض رهطا من عساكره بالقرب من البلاط الملكي في حي الكسرة بالأعظمية بجانب الرصافة من بغداد بمناسبة الاحتفال بذكرى تتويج الملك فيصل الثاني، في هذه اللقطة يحيّي قاسم الملك وينظر نحوه نظرة قاسية، ولو حلّل وقتذاك أي خبير تلك النظرة لتأكد أن هذا الضابط ينطوي على خطط عدائية ضد قائده الشرعي.



لقد كان "من المفروض أن يتزوج الملك الشاب فيصل الثاني في تلك الفترة بفاضلة أو فضيلة التي كان والدها من العائلة المالكة بمصر وأمها من عائلة عثمانية، حفيدة السلطان العثماني عبد المجيد الذي لم يتبوأ السلطنة، بل منحوه لقب خليفة، وأخذت منه السلطنة. والقصر الذي يطلق عليه اليوم(القصر) الجمهوري بُني كقصر ليتزوج فيه الملك فيصل الثاني، وهو قصر ملكي ومجلس الأمة الذي صار اسمه المجلس الوطني واتخذه صدام حسين مكتبا رسميا له عندما كان نائبا لرئيس الجمهورية، كان مخصصا للبرلمان الملكي".

قرارات السفارة البربطانية

ولا يخفي الباجه جي تأثره بالشعارات التي جاء بها انقلاب أو ثورة يوليو (تموز)، فيقول معترفا: "كنت في عمر الشباب وكانت الشعارات المطروحة تتحدث عن الحرية والاستقلال من النفوذ الأجنبي وتحقيق الديمقراطية، وكان يهمني كثيرا التخلص من الاستعمار البريطاني، وبالفعل تحقق ذلك، أعني تخليص العراق من السيطرة البريطانية، ففي العهد الملكي كان السفير البريطاني يتدخل في تأليف الوزارة ورفض هذا وقبول ذاك، وهناك وثيقة بريطانية صادرة سنة 1947، في عهد حكومة صالح جبر، يقول فيها السفير البريطاني لوزير خارجيته: (لقد نبهت الوصي عبد الإله بأن الوزارة الحالية، باستثناء رئيسها ووزير الخارجية فاضل الجمالي، هي وزارة هزيلة وضعيفة، وقد أشرت على الوصي بتغيير بعض الوجوه في الوزارة)، ثم يعدد الوزراء الذين لا يرغب بهم ويضع أوصافه عنهم، مثلا جمال بابان رجل فاسد، وشاكر الوادي لا فائدة منه، وتوفيق وهبي شخصية كردية محترمة لكنه كبير في السن، واقترح السفير البريطاني أن يأتوا بعناصر جديدة مثل علي ممتاز وبعض الشباب المعارض. وفي وثيقة أخرى يقول: (أخبرني الوصي بأنه سوف يكلف مزاحم الباجه جي بتأليف الوزارة، وهو شخصية سياسية وكان خارج العراق لأكثر من 12 سنة ولا ندري ما اتجاهاته، فقلت له (للوصي): لا مانع، لنجربه ونرَ ماذا سيفعل)".

ويقول مؤكدا: "نعم، كان البريطانيون يتدخلون في كل شيء، وأتذكر أنه في الحفلات التي كانت تقام ببغداد ويحضرها الملك، كانت سيارة السفير البريطاني فقط تقف إلى جانب سيارة الملك حتى لا يتعب نفسه ويتمشى قليلا عندما يخرج من الحفلة. كانت هذه التصرفات وهذا التدخل يستفزان العراقيين".



ويتذكر الباجه جي: "ذات مرة دعاني، السفير البريطاني ببغداد، مع زوجتي إلى حفلة (بلاك تاي) والتي تعني ارتداء البدلة السوداء والقميص الابيض وربطة العنق السوداء، بينما ترتدي المرأة فيها بدلة سواريه، في مبنى السفارة البريطانية ببغداد، وكان يتصرف بتباهٍ". مستطردا بقوله"هذا السفير ذاته، جاء إلى وزارة الخارجية العراقية بعد ثورة تموز خائفا ومتنكرا، بينما كان قبل الثورة (نافش ريشة) مثل الديك الرومي".

يؤكد الباجه جي ان" كل الخطط السياسية كانت ترسم ويدار تنفيذها في مبنى السفارة البريطانية". مستدركا بقوله"البريطانيون كانوا قد اختاروا أفضل موقع ببغداد، على الضفة الغربية (الكرخ) لنهر دجلة، وفي منطقة تسمى الشواكة، قريبا من بيت توفيق السويدي، وبنوا على مساحة كبيرة جدا سفارتهم، وعلى الرغم من أن السفارة البريطانية اليوم ومنذ 2003 تقع في المنطقة الخضراء فإنهم ما زالوا يحتفظون بالبناية القديمة ولهم فيها مكتب".

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب