أربعة رؤساء جمهوريات تعاقبوا على هذا المنصب في العراق منذ عام 2004 وحتى اليوم.. ثلاثة منهم من الكورد الذين تعرفت عليهم عن قرب، وكنت قريباً ومقرباً منهم، وهم: جلال طالباني، وفؤاد معصوم، وبرهم صالح.. رووداو عربية تنشر هنا، والعراق بانتظار الرئيس العاشر منذ قيام النظام الجمهوري في 1958.. على حلقات، ريبورتاجاً مروياً، أو صوراً مكتوبة عن رؤساء الجمهورية بعد 2003، قبل وخلال توليهم هذا المنصب، لتعريف القارئ بصور رؤساء جمهوريات العراق ما بعد التغيير.
ولاية ثانية بصلاحيات
قبيل تكليف الرئيس جلال طالباني بولاية رئاسية ثانية، دعاني لشرب الشاي في منزله بمدينة السليمانية التي كنت فيها لمهمة صحفية، بالتأكيد أسعدتني هذه الدعوة كما كنت أشعر بالسعادة في أي لقاء مع مام جلال، فهو لم يكن بالنسبة لي رئيساً للجمهورية أو زعيماً لحزب كوردستاني، بل كان بالنسبة لي صديقاً ومناضلاً ثورياً من أجل قضية شعبه منذ أن انتمى للحزب الديمقراطي الكوردستاني والتحق بجحافل البيشمركة الثوار بقيادة الزعيم الخالد ملا مصطفى بارزاني.
كنت قد خمنت سبب الدعوة مسبقاً، إذ كانت السجالات تدور حول قبول أو عدم قبول طالباني لولاية رئاسية ثانية، وكنت قد هيأت نفسي لمثل هذا النقاش، بالرغم من أن صديقاً وقيادياً كبيراً جداً في الاتحاد الوطني كان قد حذرني من أن أقول لمام جلال لا تقبل بفترة رئاسية ثانية، وقال "سوف يكرهك بقدر حبه لك الآن إذا أخبرته بذلك"، لكنني كنت مصراً على أن أخبره بما أؤمن به وأن لا أخون مبادئي ولا ثقته (طالباني) بي.
كان اللقاء بعد الساعة الرابعة عصراً، وكان مام جلال يرتدي بيجاما ذات لون أزرق فاتح، حدث ذلك بعد أن لازمته لما يقرب من شهرين وأنا أدون مذكراته في دوكان والتي صدرت بعنوان "سنوات النار والثلج"، لهذا لم يكن غريباً علي أن يستقبلني بالبيجاما كونه لم يكن يتعامل معي بصفة رسمية أو كغريب.
وبعد أن قدموا لنا الشاي بادرني بالسؤال مباشرة: "كاكا معد، باعتبارك صديقاً لي وليس صحفياً، ماذا ترى: هل أقبل ترشيحي لولاية رئاسية ثانية، أم لا؟". أجبت وبوضوح بأنك: "أكبر من منصب الرئاسة، وأنت من منحت المنصب أهميته، لهذا أرى ان لا تقبل بهذا الترشيح ما لم يمنحوا الرئيس صلاحيات تنفيذية إضافية، وأن يتم تقاسم الصلاحيات التنفيذية بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، وأن تمارس صلاحياتك كقائد أعلى للقوات المسلحة". أثنى على مقترحاتي وقال "شكراً كاكا..هذا ما يجب أن يكون".
لكن للأسف التعقيدات الدستورية، وتشبث نوري المالكي، الذي كان رئيساً للوزراء وقتذاك، بصلاحياته المطلقة، والدعم الإقليمي، الإيراني خاصة، للمالكي، وعدد المقاعد البرلمانية التي كانت تحت سيطرة "دولة القانون" وانحياز نواب من السنة للمالكي بسبب سلطة المال، ولأن طالباني كان حريصاً كل الحرص على استتباب الأوضاع الأمنية، أجّل موضوع الصلاحيات حتى تستقر العملية السياسية، هذا ما عرفته منه فيما بعد عندما قال لي "هسة مو وقتها، خلي تستقر الأوضاع ويستقر العراق أولاً".
وعندما أثيرت بعض الآراء التي عارضت ترشيح جلال طالباني لولاية ثانية لرئاسة الجمهورية، دافع الدكتور فؤاد معصوم عن حق طالباني باعتباره منتخباً، وقال لي: "إن الرئيس جلال طالباني، هو المرشح الأوفر حظاً لمنصب رئيس الجمهورية، بالرغم من تردده (طالباني) بترشيح نفسه، لكنه المرشح المفضل من قبل بقية الكيانات السياسية، مشيراً إلى أن طالباني له رؤية خاصة في موضوع تسلم منصب رئيس الجمهورية، فهو ليس بحاجة إلى المنصب، بل يريد منصباً يساهم من خلاله بخدمة العراق والشعب العراقي، وهذا يعني أن يكون على رأس دولة تكون كلمته فيها مؤثرة وفاعلة، من خلال صلاحيات واسعة.. ونعتقد أن الاتفاقات التي ستتم مع بقية الكتل السياسية ستشمل موضوع الصلاحيات الرئاسية".
اليوم والعراق يدشن دورة برلمانية جديدة، خامسة، وقرب الاستحقاقات الدستورية لاختيار رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء، على العراقيين أن يستفيدوا من التجارب المؤلمة والنكسات والفواجع التي عاشوها على مدى أكثر من 18 سنة، وأن يجبروا الأحزاب السياسية المتنفذة، على اختيار رئاسات وطنية تعمل لصالح العراق والعراقيين وليس لمصالحها الشخصية ومصالح أحزابها السياسية.
وأقترح على القيادات والأحزاب الكوردية والعربية المخلصة للبلد والشعب، أن تعمل على إصلاح الدستور وإعادة صياغته أو صياغة بعض فقراته لمنح رئيس الجمهورية صلاحيات تنفيذية إضافية، في الاقل منها تقاسم صلاحيات رئيس الوزراء كي لا يتم التكريس لدكتاتورية رئيس الحكومة من خلال صلاحياته شبه المطلقة وأن يكون لرئيس الجمهورية حرية العمل والمبادرة لخدمة بلده وشعبه، وهذا ما سيشجع الشخصيات السياسية الكوردية الأمينة والمخلصة للعراق وللشعب العراقي بأن تفخر بهذا المنصب، كما سيمنح العراق فرصة بالاستفادة من الخبرات السياسية والاقتصادية والثقافية التي يتمتع بها رئيس الجمهورية إذا ما تم اختياره بعناية اعتماداً على كفاءته وروحه الوطنية.
جحا وعلي حسن المجيد
كان العراقيون في عهد نظام صدام حسين يتداولون النكات السياسية همساً وبحذر بالغ، بل بالغ جداً، فالنكتة وقتذاك يمكن أن تقود إلى الإعدام أو السجن المؤبد أو التعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية، لكن مام جلال فاجأ العراقيين عندما ظهر على شاشة التلفزيون وهو يروي النكات التي قيلت عنه، بل أن هناك بعض النكات هو من ألفها عن نفسه. ومن يعرف الرئيس طالباني قبل أن يكلف بمسؤولية رئاسة جمهورية العراق، فإنه سيدرك أن مام جلال لم يتغير، فهو كان يروي النكات منذ أن كان مقاتلاً في الجبل أو زعيماً لحزب سياسي أو واحداً من أبرز قادة المعارضة، ويخبرنا الدكتور فؤاد معصوم الذي عاصره عبر فترات حياته المختلفة، قائلاً: "إن مام جلال ربما كان هو الوحيد الذي يروي النكات أمام ملا مصطفى بارزاني أو يمزح معه".
والمقربون من الرئيس طالباني يعرفون أن "مام جلال" يلجأ إلى النكتة أو رواية حادثة ظريفة كلما اشتدت النقاشات في قضية ما من أجل تهدئة الأجواء، ويروي عنه أحد المقربين الذين شاركوا في وفد المحادثات بين القيادة الكوردية ونظام صدام حسين، أن النقاشات اشتدت حول كركوك، فما كان من طالباني إلا أن يقترح استراحة لشرب الشاي والاسترخاء ومن ثم مواصلة الحوار، وخلال الاستراحة أراد طالباني أن يروي نكتة عن جحا المعروف عند الكورد بـ(ملا نصر الدين)، فقال: "في يوم من الأيام كان ملا نصرالدين، الذي يعرف بين العرب باسم جحا، بينما هو كوردي واسمه ملا نصرالدين"، وهنا احتد علي حسن المجيد وقال: كاكا.. جحا عربي وينحدر من أصول عربية من الكوفة، وهو ليس ملا نصرالدين ولا كوردياً، ولما شاهد "مام جلال" أن علي المجيد احتد لمجرد تغيير تسمية جحا إلى ملا نصرالدين فإنه (طالباني) قرر أن يذهب إلى نهاية المشوار ليسخر من المجيد فأصر بأن جحا كوردي وأنه من أصول كوردية، وهنا قال المجيد "كاكا حتى جحا تريدون أن تأخذوه من عندنا"، فابتسم طالباني وأجابه بهدوء: "كاكا علي تاخذون جحا وتعطوننا كركوك".
رجل الوفاق الوطني
جلال طالباني طالما تمنى، عندما كان رئيساً للجمهورية، أن يتقاعد من مهمته كرئيس لجمهورية العراق، لكن التيارات السياسية والقادة السياسيين في العراق أصروا على بقائه كونه رجل الوفاق والوئام الوطني، وعندما سألناه حول ما إذا كان الرئيس الذي سيخلفه كوردياً أم عربياً، قال: "ليس شرطاً أن يكون رئيس العراق كوردياً، وإنما يجب أن يكون فضلاً عما يتمتع به من مميزات إنسانية وسياسية وبقية المؤهلات المطلوبة، يجب أن يكون رجل الوفاق الوطني ومقبولاً من قبل التيارات الرئيسة في البرلمان، وقادراً على تقريب وجهات النظر، ولعب دور في المصالحة الوطنية، وكذلك لعب دور في تحقيق حكومة الوحدة الوطنية عن طريق التقريب بين وجهات النظر بين الكيانات المختلفة في العراق. أما فيما يتعلق بالرأي الآخر وهو أنه يجب أن يكون الرئيس عربياً فهذا يخالف مفهوم الوحدة الوطنية، فالشرط الأساسي في مفهوم الوحدة العراقية هو أن جميع المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات، لهذا لكل عراقي الحق في أن يكون رئيس جمهورية أو رئيس وزراء لو توفرت له شروط هذين المنصبين".
ويشدد على أن: "استثناء الكوردي من هذا المنصب أو ذاك بحجة أنه كوردي هو استثناء شوفيني لا يتناسب مع مفهوم الوحدة الوطنية ويحمل روح التعصب القومي المعادي للكورد، أنا أود أن أقول إن تولي الكورد مناصب رئيسة في الوطن العربي ليس جديداً، لنلاحظ كم رئيس جمهورية سوري كان من الكورد ولم يجر الاعتراض عليه لأنه كوردي وإنما جرى الاعتراض على سلوكه أو على أدائه أو على مواقفه، هذا الاعتراض بدعة جديدة ظهرت مع العفلقية (نسبة إلى ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث) في العالم العربي، العفلقية كوباء، حسب ما أسميها أنا، جلبت مجموعة من الأفكار الشوفينية المعادية والمشتتة لوحدة الشعب والمعادية للأصول الديمقراطية، نلاحظ في البلدان المتقدمة أنه يحق للمتجنس الحصول على أعلى المناصب من دون الاعتراض على أصله، فلماذا لا يكون في العراق حق للجميع بأن يتبوأوا المراكز المهمة إذا كانت المؤهلات متوفرة لديهم، يجب أن نعترض عندما يأتي الرئيس بواسطة الانقلابات العسكرية وعن طريق صعود الدبابات وتغيير نظام الحكم رغماً عن إرادة الشعب، لكن عندما يكون الرئيس مختاراً من قبل الأغلبية البرلمانية له الحق في أن يكون ما يشاء".
عصر الانقلابات انتهى
يؤكد الرئيس طالباني أن عصر الانقلابات العسكرية قد انتهى في العراق، ويقول: "أنا أعتقد أن عصر الانقلابات العسكرية التي تأتي برئيس بقوة السلاح والدم قد انتهى، أعتقد أن العصر كله لم يعد يتقبل الانقلابات العسكرية، لا أقول إنه ليس هناك احتمال حدوث الانقلاب في البلدان المتخلفة، وأن يركب بعض الضباط رؤوسهم ويرتكبوا عملاً ديكتاتورياً بواسطة الانقلاب، ولكني أقول إن عصر الانقلابات العسكرية قد انتهى، ويؤسفني أن أقول إن عصر الانقلابات العسكرية في العراق قد افتتحه ضابط كوردي هو الفريق بكر صدقي الذي كان معاوناً لرئيس أركان الجيش في الثلاثينات، ولكنه استجاب لطلب من الزعماء التقدميين العراقيين العرب، أمثال المرحومين جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي، الذين تولوا السلطة بعد هذا الانقلاب وكانت هذه بداية سيئة، فالعولمة اليوم لا تقبل بقيام انقلابات عسكرية".
ويؤكد الرئيس العراقي على مبدأ المشاركة في العراق، ويوضح بقوله: "نحن نريد أن نعبر عن طبيعة تركيب الشعب العراقي، لقد أقر العهد الملكي بوجود قومية كوردية في العراق، النجمتان اللتان كانتا موجودتين في العلم العراقي في العهد الملكي كانتا ترمزان إلى القوميتين العربية والكوردية، وعلى مدى حكم العهد الملكي كان الكورد يتولون مناصب رئيسة في الدولة كرئيس وزراء أو وزير دفاع أو رئيس أركان الجيش، حتى إن ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 استهلت بالمادة السادسة التي تقول إن العرب والكورد شركاء في العراق، وكان يطلق على العراق تسمية جمهورية العرب والكورد، لم نسمع أن العراق جمهورية عربية بحتة إلا من قبل الشوفينيين العرب الذين دمروا البلد بالمؤامرات، والدستور العراقي ينص على هذه الشراكة وفقرة المشاركة العربية الكوردية كانت مأخوذة من برنامج هيئة المؤتمر الوطني العراقي الذي كان يضم الوطنيين الديمقراطيين وحزب الاستقلال القومي العربي والجبهة الشعبية، هذه العبارة كانت القاسم المشترك بين جميع العراقيين قبل طغيان النزعات الشوفينية والعفلقية، لهذا، اعتماداً على منطلق الشراكة، يحق للأكراد أن يتبوؤوا هذا المركز أو ذاك".
لم ألتق بصدام بعد اعتقاله
سألت الرئيس جلال طالباني ما إذا كان قد التقى الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بعد اعتقاله أم لا؟ وهل كان سيعفو عنه وينقذه من عقوبة الإعدام؟ أجاب قائلاً: "عندما تم اعتقال صدام حسين لم أجد سوى أن أردد ما قاله الشاعر الكبير الجواهري: بئس الشماتة شيمة، أما أن أعفو عن صدام أم لا فهذا الحق كان لمجلس الرئاسة ولم يكن لي ـ نحن كنا في مجلس الرئاسة نتكون من الرئيس ونائبين، وقراراتنا جماعية وبالتصويت، وأرجو أن تعرف بأني من المحامين الموقعين دولياً على النداء الدولي لإنهاء حكم الإعدام في العالم".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً