"عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"
تنشر رووداو على حلقات كتاب "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، فهذا الدبلوماسي الذي مثّل العراق في الأمم المتحدة لأكثر من 50 عاماً، وتبوأ منصب وزير الخارجية في الستينيات، ولد في بدايات القرن الماضي، ورحل في الربع الأول من القرن الحالي، وبهذا يكون بالفعل قد عاش بين قرنين مزدحمين بالأحداث العراقية والعربية والدولية.. كما التقى الملك فيصل الأول، مؤسس العراق الحديث، وعاصر كل رؤساء حكومات العهد الملكي ورؤساء الجمهوريات العراقية وصولاً إلى صدام حسين وما بعده. هذا الكتاب ليس مذكرات بالمعنى التقليدي، لم يكتبها الباجه جي بنفسه، بل هو صفحات بارزة من حياته، وتطلّب إنجازه المرور بمراحل عدة وعلى مدى أكثر من سبع سنوات، وعبر محطات بدأت في لندن عام 2010 وانتهت في أبو ظبي عام 2017.. أنا أسأل وهو يسرد بدقة.. كنا نتناقش، ونحلل، ونبحث، ونمضي خلال أزمنة ودروب وأزقة تنطلق من حي السنك في شارع الرشيد، حيث ترعرع الباجه جي، ونذهب إلى مدن بعيدة، نجتاز بحاراً وقارات لنتتبع قصصاً وأحداثاً وشخوصاً وتواريخ.. تحدثنا عن السياسة والمدن والأزياء وأسلوب حياة المجتمع العراقي خلال مائة عام تقريباً.
الحلقة (11)
خطة عسكرية اميركية ضد سوريا
في منتصف الخمسينات انشغلت الإدارة الأميركية وحتى بريطانيا بالخوف من المد الشيوعي في الدول العربية، وبخاصة في سورية، حسبما يكشف الدبلوماسي العريق عدنان الباجه جي، إذ "كان موضوع سورية شاغل الأميركان عندما اكتشفوا أن النفوذ الشيوعي يزداد في هذا البلد، وكان يؤيدهم في هذه المخاوف كميل شمعون، رئيس لبنان. وفي عام 1957 قالوا إنه يجب أن يقوم حلف بغداد، بعمل ما لوقف هذا النفوذ (الشيوعي)، وكانت هناك فكرة لتدخل عسكري في سورية".
ولكن كيف سيتم تمرير هذا المقترح أو القرار المبطن كمقترح على الحكومة العراقية التي كان يترأسها علي جودت الأيوبي الذي عرف بمواقفه العروبية القومية، حتى إن "الأيوبي كان قد اوقف الحملات الإذاعية ضد مصر وعبد الناصر، وأنهى هذه الإجراءات تعبيرا عن مواقفه القومية".
وتأكيدا لمواقف رئيس الوزراء العراقي، الأيوبي، يذكر الباجه جي هذه الحادثة التاريخية "فقد كان رئيس الوزراء الأيوبي في إسطنبول وقتذاك في زيارة مع الملك فيصل الثاني، والتقى هناك وكيل وزارة الخارجية الأميركية الذي طرح على الأيوبي مشروع التدخل العسكري من قِبل حلف بغداد في سورية، فرفض الأيوبي هذا المشروع وقال له: ما دمت أنا رئيسا لوزراء العراق فسأرفض أي تدخل عراقي في الشأن الداخلي السوري".
استقالة وزارة الايوبي
لم يكتفِ رئيس الوزراء العراقي بما أظهره من موقف عربي شجاع وبما أبلغ به نائب وزير الخارجية الأميركي، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، "فعندما عاد الأيوبي عن طريق البحر من إسطنبول إلى بيروت ذهب من هناك عن طريق البر إلى الشام (دمشق)، والتقى رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي، الذي كان من الرعيل الأول من القوميين العرب وعضو في جمعية الفتاة العربية، وكدعم من العراق لسورية، صرح الأيوبي من دمشق قائلا: (إذا حدث أي تدخل عسكري في سورية فإن العراق لن يقف مكتوف اليد)، وبالتأكيد كان هذا الموقف الواضح قد أغضب الأميركان كثيرا، لهذا طلبوا من عبد الإله، الذي كان لا يزال يسيطر على العرش على الرغم من انتهاء وصايته ووجود الملك فعليا، إزاحة الأيوبي عن رئاسة الوزراء".
يتذكر الباجه جي قصة تعبر عن مدى نزاهة رئيس الوزراء العراقي والحكومة وقتذاك: "فعندما عاد الأيوبي من إسطنبول إلى بيروت لم يذهب إلى بغداد كما هو مقرر في جدول زيارته الرسمية بل قرر الذهاب إلى دمشق، كما ذكرت، لهذا طلب من السفارة العراقية في لبنان تأجير سيارة لتقله إلى الشام، وهذا ما حصل، ومن هناك عاد إلى بغداد، وبعد فترة قصيرة من عودته وصله إشعار من وزارة المالية بقطع عشرة دنانير من راتبه الشهري وهي بدل إيجار السيارة التي أقلته من بيروت إلى دمشق باعتبار أنه موفد من بغداد إلى بيروت ثم إلى إسطنبول وبالعكس، ولم يكن في جدول الإيفاد الرسمي ما يشير إلى رحلته إلى دمشق، وبالفعل دفع المبلغ بلا أي نقاش".
وكدليل قوي على تدخل عبد الإله في شؤون الحكومة، وهو تدخل غير دستوري وكان مدعوما من قِبل البريطانيين، وعلى الرغم من وجود ملك دستوري للبلد فإنه "بعد عودة الأيوبي عمل على إجراء انتخابات واقترح على عبد الإله إشراك المعارضة في الحكومة ليكون هناك نوع من الانفتاح وإشراك قوى وطنية أخرى، لم يوافق الوصي على ذلك، لهذا قدّم الأيوبي استقالته".
تقاليد ادارية راسخة
ولنا أن لا نتخيل أن تعامل الحكومة مع عدنان الباجه جي، نجل رئيس الوزراء الأسبق مزاحم الباجه جي والمعارض وقتذاك، وصهر رئيس الوزراء علي جودت الأيوبي والذي كان قد قدم استقالته توا، قد تغيرت سلبا، بل العكس، فقد كانت هناك قيم وظيفية ومبادئ أخلاقية تحترم الكفاءات والعاملين حسب عطائهم، وهذا ما يوضحه بنفسه: "بقيت في ديوان رئاسة الوزراء شهرين ثم سقطت الوزارة بعد أن قدم الأيوبي استقالته وجاءت وزارة عبد الوهاب مرجان فتم أعادتي إلى وزارة الخارجية وعينت مديرا عاما لدائرة العلاقات الدولية ولم تغير الحكومة التعامل معي على الإطلاق، كانت هناك قيم واحترام وأصول ومبادئ، وليس مثل ما يحدث اليوم من انتهاج سياسة كسر العظم والإقصاءات".
رئيس وزراء بلا حماية
كان رئيس الوزراء يتصرف في الشارع وبين الناس باعتباره مواطنا اعتياديا "لا فخفخة ولا حمايات" مثلما يذكر نجل وصهر رئيسين سابقين للوزراء، والناس كانوا يتعاملون معه باحترام لشخصه لا لمنصبه، يقول: "لم تكن لرئيس الوزراء حماية باستثناء شرطي يجلس قرب السائق عندما يخرج رئيس الوزراء من مكتبه، وغالبا ما كان رئيس الوزراء يطلب من الشرطي البقاء وعدم مرافقته.كان هناك مرافق عسكري برتبة ضابط أحيانا يرافق رئيس الوزراء، والتنقل كان يتم بسيارته الخاصة لا بسيارة الحكومة، كما أنه لم تكن هناك سيارة ترافقه سواء أمام سيارته أو خلفها، كانت المظاهر الحكومية تتسم بالبساطة. أذكر هنا حادثة كتبت عنها الصحف وقتذاك، حيث كانا، والدي والأيوبي رئيسَي وزراء سابقين، يتمشيان في شارع الرشيد للتسوق، ويذهبان إلى بقال في منطقة باب الآغا في شارع الرشيد لشراء الفواكه وبقية المواد بلا حماية وبين الناس. بغداد كانت آمنة والناس بسطاء وطيبين".
وفي إطار مقارنة غير مخطط لها، يذكر الباجه جي أن "راتب رئيس الوزراء كان وقتذاك 120 دينارا شهريا، وكانت هناك مخصصات سرية بسيطة وخاضعة للرقابة المشددة، واي فلس يتم صرفه يجب أن تكون له وصولات وتسجيل، لا توجد مقارنة بين أوضاع ذاك الزمن والآن، فبالإضافة إلى الرواتب الضخمة للغاية التي يتقاضاها رئيس الوزراء اليوم فإن تحت تصرفه الشخصي ملايين الدولارات وضعت في الميزانية تحت بند (المنافع الاجتماعية) ولا أحد يسأل عن مصير هذه الملايين وكيف يتم صرفها وإلى أين تذهب. المسؤولون في الحكومة اليوم كانوا قبل فترة بسيطة لا يملكون أي شيء، واليوم يملكون العقارات في كل مكان ويشترون القصور بملايين الدولارات".
نهرب من الحديث عن السياسة وازماتها الى اسلوب الحياة وروح العصر وانواع السيارات التي كان عدنان الباجه جي قد استعملها وقتذاك، وهو الدبلوماسي المعروف ونجل رئيس وزراء سابق وابن عائلة ميسورة، وفيما اذا كان يمتلك سيارته الخاصة، يجيب الباجه جي قائلا:"طبعا، كانت عندي سيارتي الخاصة التي جلبتها معي من أميركا وكانت (بونتياك)، لونها رصاصيا وهي سيارة اعتيادية آنذاك، فحسب القانون كان من حقي، ومن حق أي موظف يعمل في الخارج ، أن أجلب معي سيارة من البلد الذي كنت أعمل فيه، أما أول سيارة اشتريتها عام 1946 في واشنطن وبعد زواجي فكان نوعها (ستودي بيكر)، ثم اشتريت سيارة (فورد)، وعندما انتهى عملي قنصلا في الإسكندرية أخذت معي إلى بغداد (بيوك كونفرتبل)".
الديمقراطية هي الحل
ويدفع الباجه جي عن نفسه الاتهامات التي كانت تصفه بالمُعادي للحكم الملكي وبأنه كان يؤيد قيام حكم جمهوري: "لا، لا، أنا ما عندي ميول جمهورية مثلما يقال، على الرغم من أن والدي كان يتمتع بهذه الميول، بل إنهم اتهموه (مزاحم الباجه جي) بأن ميوله اشتراكية، وأنا لا أعتقد ذلك، وعندما كان رئيسا للبعثة الدبلوماسية للعراق في لندن خلال العشرينات كان عضو شرف في حزب العمال البريطاني".
ويعبّر عدنان عن تصوراته السابقة، وحتى اللاحقة، عن الحكم في العراق قائلا: "أنا كنت أتصور أن يكون في العراق نظام ملكي دستوري وأن يكون نفوذ الملك محدودا وأن تتشكل الحكومات بعد فوز أحزابها بالانتخابات، ربما كان هذا نوعا من التفاؤل في غير محله (يضحك)، وحتى اليوم أنا لا أجد أي خيار للعراق والعراقيين سوى الديمقراطية على الرغم من مشكلاتها وكونها تشكل مجازفة فالشعب ليس دائما أو شرطا أن يختار الأكثر صلاحية، بل على العكس في كثير من الأحيان يختار الأسوأ". لكنه ما كان يتخيل في يوم من الأيام أن يصل العراق إلى ما وصل إليه اليوم: "لا، لا، ما وصل إليه العراق من أوضاع اليوم لا يصدَّق، خبرتي وتجربتي في العراق لم تجعلني أتصور أو أتخيل السوء الذي وصل إليه وضع الحكم في العراق اليوم وما يحدث على الإطلاق".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً