رووداو تنشر مشاهدات شاهد عيان: تفاصيل ما حدث في النجف خلال الاحتلال الأميركي.. وجهاؤها كتبوا قصيدة تهنئة لبوش

10-04-2023
معد فياض
الكلمات الدالة بغداد الجيش الأميركي
A+ A-

معد فياض

واحدة من ابرز اسباب حرص القوات الاميركية لاحتلال مدينة النجف في بداية شهر نيسان 2003، انهم كانوا يدركون انها تشكل الثقل الديني لشيعة العراق والعالم، وان المراجع العليا مقيمة فيها، وكانوا يتصورون بانهم سيحصلون بطريقة ما على فتاوى بعض المراجع التي تؤيد احتلالهم للعراق، لكنهم في الحقيقة لم يتمكنوا من الوصول او الاتصال، سواء بصورة مباشرة او عن طريق اشخاص مقربين منهم، باي مرجع شيعي، وفشلوا في الحصول على اية فتوى لصالحهم.
 
هنا شهادات شاهد عيان لما حدث في النجف ببداية احتلال القوات الاميركية للمدينة، حيث كنت اول صحفي يدخل المدينة، والاراضي العراقية قبل سقوط نظام صدام حسين في نيسان 2003.
 
النجف عطشى
 
كان كل شيء في مدينة النجف قد تغير، بيوتها ووجوه ناسها بدأت كالحة ومتعبة، الشوارع والأزقة محفورة وتلال القمامة في كل مكان، اليأس وملايين من الأسئلة ترتسم فوق الوجوه المتعبة، الأطفال حفاة، والجوع ترك معاله عليهم، رغم ذلك هم يطلقون ابتساماتهم البريئة لاي زائر جديد خاصة افراد القوات الاميركية الذين اعتقدوهم المنقذين لاوضاعهم.
 
المدينة تبدو وكأنها قد تخلصت توا من هولاكو الذي ترك آثاره في العيون والوجوه والبيوت والشوارع والسيارات المحطمة والعربات التي تجرها الحمير، وأكثر ما شد انتباهي هي اسلاك الكهرباء المتشابكة والتي شكلت شبكة واسعة في فضاء المدينة، هذا المنظر كان جديدا بالنسبة لي حتى عرفت موضوع المولدات الكهربائية وبيع الامبيرات للاهالي. 
 
هل نحن في مدينة تنتمي إلى القرن الأول من الالفية الثالثة بالفعل؟ مدينة تعد من الحواضر الأسلامية والعلمية والتجارية، تقع في العراق الذي يعد واحدا من اغنى بلدان العالم؟. كانت المدينة تغرق في أثير من التراب وتبدو سابحة في سراب يأتي من أزمنة الخراب. كان الرجال يجتمعون في مجالس خارج البيوت لمناقشة آخر التطورات، بينما غالبية من النسوة في اطراف المدينة يغسلون الثياب في سواقي شحيحة بمياهها، فالماء كان مقطوعا تقريبا عن البيوت لهذا كانت المدينة عطشى، اذ تعرضت محطة ضخ المياه الصالحة للشرب للعطل اثر تفجير انبوب الضخ الرئيسي. وكذلك الكهرباء، لكن الجميع كان يشكو من انقطاع المياه، كنا نجتاز الأزقة والناس تصيح "نريد ماء". المدينة عطشى ونهر الفرات على مسافة اقل من 10 كيلومترات عنها. 
 
كان العقيد قوات خاصة الاميركي غريك وبقية افراد قوته الذين رافقتهم في جولة بين احياء النجف، يحيون الأهالي بـ"سلام عليكم" وكان الناس يردون "ووتر، ووتر، نريد ماء".. الرجال يدفعون عربات خشبية فوقها خزانات بلاستيكية لنقل الماء من السواقي القريبة من المدينة والتي تحولت الى حمامات مجانية للشباب. توقف الرتل في احد الازقة أمام باب بيت المرجع الشيعي  محمد سعيد الحكيم فقد سعيد بشدة للقاء احد المراجع والحديث معه، لكن هناك من اخبرنا ان السيد غير موجود حاليا في البيت ولم يفصح عن مكان اقامته، ذلك ان غالبية المراجع والعلماء انتقلوا الى اماكن سرية خشية على حياتهم من ان يتعرضوا للأختطاف من قبل اجهزة نظام صدام حسين، او ان يجبروا على استصدار فتاوى لصالح هذه الجهة او تلك، او ان تفرض عليهم القوات الاميركية استقبال احد الضباط او السياسيين. كان المرجع الوحيد الذي بقي في بيته هو الشيخ اسحق الفياض الذي استقبلنا برحابة صدر وتحدث باقتضاب عن الاحداث.  
 
عدنا الى معمل اسمنت الكوفة، ومن هناك هاتفت صحيفتي في لندن التي كانت اول جريدة تنقل ميدانيا ما يجري في النجف باعتبارها اول مدينة عراقية محررة من نظام صدام حسين، وتنشر تقاريرا صحفية من هناك، تقارير كنت اكتبها على ضوء الفانوس او الشموع في احيان كثيرة والقنها بواسطة هاتف الثريا لموظفة في الجريدة حيث لم تكن هناك اية خدمات انترنيت، وهنا اكرر كنت اول من وصل الى مدينة وارض عراقية في الوقت الذي كان فيه صدام حسين ما يزال يحكم العراق رسميا، ومليشياته نشيطة وتقاوم في بعض المدن العراقية ومنها النجف التي تجولت فيها، وتشهد بذلك الصحف والإذاعات والفضائيات التي نقلت اغلب تقاريري. كان احمد الجلبي رئيس الؤتمر الوطني قد دخل بعدنا ووصل الى قاعدة الامام علي (طليلة) في الناصرية بعد اربعة ايام من مغادرتنا لها، واظهرته بعض المحطات الفضائية وهو يرتدي بدلة انيقة ومحاطا بحشد من المسلحين  لحمايته، بينما كنا ننام في ذات القاعدة تحت خيمة بائسة.
 
خصصت غرفة مهندس ورشة المعدات الثقيلة في معمل أسمنت الكوفة لننام فيها، كانت روائح الشحوم والزيوت تغلف المكان الذي ازدحم بالمعدات والأجهزة الميكانيكية الثقيلة. ووضعوا هناك سرير متنقل من تلك التي يستخدمها الجنود الاميركيين.
 
الليلة الأولى في النجف، ونحن لسنا في النجف، لسنا في قلب المدينة وبين ناسها واهلها، كنت اتمنى ان اعود الى تلك الدينة فامشي حرا بين دكاكين سوقها العتيق وابنيتها التراثية، لكن ما كنت قد شاهدته مساء ذلك اليوم في شوارع وأزقة النجف سبب لي ردة فعل وقادني الى قرارة بئر حزينة. لم يكن ذلك الخرا َب َ هو خراب البيوت او الشوارع والبنية التحتية فقط، بل كان خراب النفوس التي بدت يائسة ومنحسرة الى داخلها. وليس بمقدورنا ان نلوم الناس على ذلك، فالحياة  تحت ظل نظام صدام، لأكثر من ثلاثة عقود ، وفي مدينة فرضت عليها العقوبات الادارية والعسكرية لاسباب كثيرة، اولها لانها شيعية ومناهضة لظلم النظام، وثانيها لن اهلها انتفضوا عام 1991 ضد صدام حسين. لهذا فرضت فيها الاحكام العرفية وغالبية محافظيها كانوا من ضباط الحرس الجمهوري. 
 
دعوة لبغداد
 
تركت الورشة التي خصصت لمنامنا وخرجت لادخن في الهواء الطلق، فاجأني العقيد غريك وهو مدبج بانواع الاسلحة ويعلق برقبته قناع الوقاية من الاسلحة الكيمياوية، سالني:"هل انت الصحفي؟"، اجبت بنعم، فاستطرد قائلا:"كنت ابحث عنك"، سالت عن سبب بحثه عني، قال:"يجب ان تأتي معنا..سنذهب بعد قليل لاحتلال مطار صدام، سنخوض معركة آمنة وسهلة لا تقلق، سندخل بغداد هذه الليلة"، كان وقع كلماته علي مثلما السكاكين الحادة، ماذا يعني انهم سيحتلون مطار صدام، هذا يعني انهم سيدمرون هذا المطار الجميل بعمارته ولوحاته ومنحوتاته وانواره ونوافيره وسيدنسونه..المطار الذي سافرت من خلاله الى خارج العراق واستقبلت فيه الاصدقاء سيكون تحت مطرقة الاميركان.. اجبته: "لا.. لن اذهب معكم.. مهمتي مختلفة ولن اشترك بمهمة عسكرية"، رد بحزم: "هذه فرصة تاريخية وستحصل على سبق صحفي نادر"، قلت:" سبق صحفي مثل احتلال مدينتي بغداد؟"، ردد بعذ الكلمات غير المفهومة ومضى.
 
في حضرة الامام
 
كان مرقد الامام علي في المدينة القديمة، قد فتحت ابوابه امام الناس بعد ان هربت الليلة الماضية ميليشيات "فدائيو صدام" وكبار المسؤولين في حزب البعث وعلى رأسهم عضو القيادة القطرية مزبان خضر هادي الذي ينحدر من مدينة خانقين حيث كان صدام قد كلفه بمهمة السيطرة على مدن الفرات الاوسط . وعرفت  ان مزبان خضر هادي، كان قد اتخذ من حضرة الامام علي مقرا آمنا له ولجماعته وهو مدجج بالاسلحة المختلفة، لكنه وقيادة فدائيو صدام عندما تاكدوا ان القوات الاميركية سيطرت على النجف وما حولها قرروا الهروب ليلا،  وقبل انسحاب ميليشيات "فدائيو صدام" من الصحن الحيدري تركت خلفها مخازن اسلحتها من الرشاشات المختلفة الاحجام، وكميات كبيرة من الأعتدة والقنابل اليدوية (الرمانات) وقاذفات (آر بي جي 7 )، في بعض أواوين صحن الحضرة، وكانت جهة شيعية متطرفة قد سيطرت على هذه الاسلحة والأعتدة بعد ان اجرت اتفاقا مع خضر هادي على ان يترك لهم كل شيء مع الاموال مقابل ان يسهلوا عملية هروبه مع جماعته من النجف. وعرفت فيما بعد ان غالبية من ميليشيا "فدائيو صدام" قد انضموا لتلك الجهة الشيعية.
 

ذكر لي جار للبيت الذي كان قد استأجره مزبان خضر هادي في حي السعد في النجف قائلا :"طلب مني مزبان الليلة قبل الماضية استخدام هاتف بيتي كون هاتفه مراقبا، حدث ذلك قبل دخول القوات الأميركية الى محيط النجف، فسمعته يحادث صديقا له، عبر الهاتف، قائلا له انه لا يدري ما يفعله، وكل شيء يبدو منتهيا وليست هناك اية نتائج مرجوة من البقاء او المقاومة، ثم اختفى بعد تلك الليلة اذ لم يكن يبيت في البيت الذي استأجره ليكون مقره في مدينة النجف".
 
الرتل الذي لا ينتهي
 
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، كنت اقف فوق تل مرتفع خارج معمل اسمنت الكوفة، كان هناك رتل من الآليات الثقيلة للقوات الاميركية يتجه جنوبا..رتل لم ارصد بدايته ولا نهايته، حتى خيل لي ان هذا الرتل المتجه الى بغداد او الى المحافظات المجاورة لن ينتهي.
 
كانت ارتال طويلة من العربات المدرعة وناقلات الجنود والشاحنات التي تحمل مختلف الأسلحة وهي في طريقها الى بغداد، ارتال على مد البصر تتحرك ليل ونهارا وكأن القوات الأميركية قد جاءت برمتها، بينما تحولت الصحراء المحيطة بمدينة النجف الى قواعد مؤقتة لتجمع هذه القوات ولتقديم امدادات الوقود والمياه والغذاء لتلك القوات التي بدت كالنمل في حركتها لكثرتها ولتحركها الدائم هنا وهناك.
 
خبز وقيمر
 
وصلت الى وسط مدينة النجف وقررت ان اتمشى هناك، لم اشعر بالخوف او الحذر لانني بين العراقيين، بين اهلي، ولا يبدو علي باي حال من الاحوال باني اميركي، كانت الدينة تصحو توا، بعض المقاهي وافران الخبز والدكاكين التي تبيع (القيمر) العراقي ودبس التمر قد فتحت ابوابها امام الزبائن، وهناك عدد من النساء والرجال والصبية الذين يتسوقون الفطور الصباحي. كنت انظرالى المخبز الذي ازدحم عنده الناس وأشم رائحة الخبز الطازج الخارج من التنور توا، اشتهيت قطعة خبز وقليل من القيمر بعد ان مللت من علب طعام المارينز المجفف الذي هو بطعم الخشب. سنوات طويلة ونحن لم نذق هذا الفطور الذي كان اعتياديا بالنسبة لنا، سنوات طويلة ونحن محرومون من الفطور الجماعي بعد ان اخذتنا ماكنة الحياة الصعبة في اوروبا، محرومون من دعاء الأم وابتسامة الأب وسجال الأخوة واصوات الأخوات وهن يعددن الفطور. 
 
كانت أزقة المدينة العتيقة تنفتح وتنغلق امامي، ارتسمت في مخيلتي كل ازقة بغداد والبصرة والموصل واربيل والسليمانية وغيرها من المدن الغارقة في ضباب التاريخ والكلمات وذاكرة الشخوص الذين صنعوا مجد تلك الدن فمنحتهم اسمها وشرف الأنتماء لها. 
 
هل سقط صدام حسين؟
 
كان غالبية الرجال يجلسون في تجمعات امام بيوتهم في الازقة او على الارصفة عندما تم الاعلان في بغداد عن سقوط نظام صدام حسين، وان (الرئيس القائد) قد اختفى بعد ان كان قد ظهر واقفا فوق سيارة لتحية الجماهير بالاعظمية، قرب مسجد الامام الاعظم. بقي المشهد العام في النجف راكدا مثل بركة ماء. لم يحركهم هذا الخبر الاهم، بل زاد من نقاشاتهم، فهم بين مصدق للخبر ومكذب له، وحتى تتحرك تلك البركة الراكدة قامت القوات الاميركية بتفجير تمثال نحاسي لصدام كان موضوعا في احدى ساحات النجف، والغريب ان احدا لم يقترب من بقايا التمثال النحاسية. ذلك ان اهالي النجف لا يريدون ان يكرروا تجربة عام 1991 عندما انتفضوا ضد صدام حسين وتخلت عنهم القوات المتحالفة التي سمحت لصدام وقتذاك باستخدام طائرات الهليكوبتر والأسلحة لقمع الأنتفاضة خشية قيام نظام شيعي موالي لايران، فخسرت كل عائلة نجفية تقريبا ثلاثة او اربعة او ستة من ابنائها الذين شاركوا، أم لم يشاركوا، في الأنتفاضة، في الوقت الذي امطرت قوات الحرس الجمهوري التي كتبت على دباباتها عبارة"لا شيعة بعد اليوم" المدينة بالصواريخ.
 

لا يتوفر وصف.

 

لم يحتفل النجفيون بسقوط النظام لانهم ارادوا ان يتيقنوا بالفعل من سقوطه، ولانهم كانوا غارقين في مشاكلهم الحياتية وغياب الخدمات، ماء صالح للشرب وكهرباء، اضافة الى فوضى الوجود الاميركي وظهور جماعات شيعية مسلحة وزعماء يريدون السيطرة على الاوضاع.

 
عواصف ترابية
 
ظهر ذلك اليوم،  أبلغنا بتحضير امتعتنا للأنتقال الى مقر آخر اكثر قربا لمدينة النجف، من جهة، واكثر راحة من ورشة المعدات الثقيلة في معمل اسمنت الكوفة.كان النهار قد انتصف والشمس بدأت قاسية بحرارتها، والتراب الاحمر(الطوز) يلوَن المنظر العام للمشهد الحياتي.  كان كل ما حولنا تراب، ناعم كالدقيق، يتسلل عبر مساماتنا الى دمنا وارواحنا، العواصف الترابية لم تنقطع، والشمس الحارقة تشوي جلودنا، والنجف بدت خالية من اي لون اخضر يشير الى وجود شجرة في الساحات او ما تسمى بالمتنزهات العامة، واذا كانت هناك اية بقايا للأشجار فقد قطعها الأهالي لأستخدامها كحطب وللخبز في التنور، كان هناك القليل من اشجار النخيل المتوزعة في اراض منخفضة في منطقة بحر النجف.
 
حملنا حقائبنا للانتقال الى مقر آخر اختارته القوات الأميركية ليكون مقرا لادارتها. هؤلاء المارينز لا يتحركون خطوة واحدة إلا برتل من العربات المحمية بالدروع، وحسب خرائط دقيقة جدا، فاذا اراد احدهم ان يذهب الى الدار المجاورة فعليه ان يرصدها على الخارطة ويثبتها لقيادته لاحترازات امنية مهمة، فهم في بلد غريب لا يعرفون من هم اعداؤهم ومن هم اصدقاؤهم. لهذا فقد قطعوا المسافة بين معمل اسمنت الكوفة والمقر الجديد خلال اكثر من خمس واربعي دقيقة، في حين كان بامكانهم اختصارها الى عشر دقائق، لكنهم تجنبوا المرور في المدينة وداروا حولها.
 
انتقلت القدمة الادارية للقوات الاميركية الى الكلية التقنية في النجف،ويقع هذا المجمع على بعد ثمانية كيلومترات عن مركز مدينة النجف، وعلى الطريق المؤدية الى الديوانية ،حيث تم السيطرة على عموم المنطقة بما فيها بيوت الاساتذة والموظفين.  كانت هناك لوحتان عند بوابة المقر الجديد، الأولى (الكلية التقنية في النجف) والثانية (العهد الفني في النجف)، اجتزنا المنشآت الدراسية التي كانت خالية تماما بالطبع، حتى وصلنا الى صف من البيوت الخالية المخصصة لاساتذة الكلية والمعهد والموظفين، لنكتشف فيما بعد ان البيوت الأخرى كانت مأهولة بالسكان، الذين تركوا اثاثهم وملابسهم مجبرين، من قبل ميليشيات "فدائيو صدام" الذين كانوا قد اتخذوا من هذا الموقع قلعة لهم حيث دارت هنا معركة بين الميلشيات والقوات الاميركية، وعندما وصلنا كانت آثار المعركة التي تكبد فيها مقاتلوا "فدائيو صدام" الكثير من الضحايا كما ادت الى حرق وتدمير عدد من البيوت. 
كنت اتنقل بواسطة سيارات الاجرة(التاكسي) بالرغم من الاوضاع الامنية غير المستقرة، وكلما عدت الى مجمع القوات الاميركية اُجبر على الوقوف على مسافة 300 متر بينما يشهر الحرس اسلحتهم باتجاهي مع انهم يعرفوني تماما، كان يجب ان ارد على بعض الاسئلة المكررة ، ومع ذلك لم يسمحوا لي بالمرور، ناديت آمر الحرس باسمه (تشارلس) والذي كان يعرفني جيدا ويعرف اين اقيم داخل المجمع، صاح بي باعلى صوته:
You I will Shoot ،Don’t Move 
 
وكنت على يقين انهم سيفعلونها ومن ثم يشيرون في تقاريرهم الى انني قُتلت بواسطة النيران الصديقة. فهم عندهم اوامر باطلاق النار على كل من يشكون به. اقترب احد الحراس بحذر بالغ وهو يضع اصبعه على زناد رشاشه المصوب نحوي مباشرة، اخبرته من أكون، واقترحت عليه الاتصال بالضابط سكوت، مسؤول القاعدة، الذي يعرفني جيدا، وهنا سمح لي بالمرور الى المجمع. 
 
قصيدة للرئيس بوش
 
كان سكان الجمع من اساتذة وموظفي الكلية التقنية والمعهد الفني، وهما مؤسستان علميتان تابعتان لوزارة التعليم العالي، قد تركوا كل شيء  من اثاث وملابس وخرجوا لانقاذ عوائلهم وارواحهم. وقد روت لي سيدة عراقية تعمل موظفة في المعهد الفني ومن سكنة الجمع كيف اجبرتهم ميليشيات "فدائيو صدام" على التخلي عن دورهم خلال دقائق تحت تهديد السلاح. كنت قد قابلت هذه السيدة عند مدخل المجمع في انتظار من تسأله عن بيتها، اذ يقف عند بوابة المجمع كل يوم العشرات من الناس إما طلبا للمساعدة او لتقديم الشكاوى للقوات الاميركية، او للوشاية على الاخرين. كانت السيدة تبكي طالبة التحدث مع أي شخص. 
 
كانت ابواب وشبابيك بيوت المجمع قد خلعت بواسطة الرصاص او القذائف، بينما نبشت المحتويات بشكل عشوائي، قطع الاثاث تم قلبها وتحطيمها، الملابس اخرجت من الخزانات، الكتب نثرت فوق ارضية البيوت، حتى الخزين من الطعام لم يسلم من العبث، فتم إفراع اكياس الرز والسكر والطحين. لقد بحث فدائيو صدام بين محتويات البيوت عما خف وزنه وغلى ثمنه لسرقته قبل الهروب من الموقع، وقد افرغوا اكياس الطعام لاعتقادهم ان هناك من اخفى المجوهرات والاموال بين الرز او الطحين،  لكن في الواقع لا توجد في هذه البيوت سوى الملابس والشهادات العلمية والكتب والصور العائلية.  
 
كانت الطوابير اليومية التي تقف عند بوابة المجمع، منذ الصباح وحتى المساء، بحاجة الى من يجيب عن استفساراتهم  التي تتعلق بمصير ابنائهم الذين كانوا يقاتلون ضمن ميليشيات "فدائيو صدام"، او انهم كانوا من العاملين في هذا المجمع ثم اختفوا، ومعرفة ما اذا كانوا قد قتلوا او اسروا. والحقيقة انه كانت هناك مقبرة جماعية لقتلى "فدائيو صدام"، حسب ما اخبرني احد جنود المارينز، ففي الليل كانت تصلنا من الشبابيك الخلفية رائحة عفونة تزكم انوفنا، وعندما سالت احد افراد المارينز عن السبب قال:"انها رائحة جثث القتلى من فدائيي صدام التي ما زال بعضها في العراء، لقد دفنا جثث غالبيتهم خلف اسيجة هذه البيوت، وسنبحث عن بقية الجثث لدفنها".
 

لا يتوفر وصف.

 

وكان البعض يأتي ليقدم شكاوى ضد جاره الذي كان ناشطا في حزب البعث او الاجهزة الامنية لنظام صدام حسين. وكان الاميركان يخبرونهم بان هذه الامور ليست من اختصاصهم وانهم لا ينوون معاقبة الناس الذين كانوا في حزب البعث او مع النظام السابق، واغرب شكوى سمعتها بنفسي ادلى بها رجل في الخمسين من عمره ضد جاره الذي سمعه يبكي قلقا على حياة صدام حسين، فقال له الضابط  الاميركي الذي التقاه "دعه يبكي هو حر، لماذا تريد ان تمنعه من البكاء؟". كان هناك بعض الريفيين الذين يدعون انهم عثروا على يورانيوم في المزارع القريبة، او اسلحة جرثومية، وعندما تذهب القوات الاميركية الى مزارعهم لا تجد سوى بقايا اسلحة تفجرت خلال القصف، او براميل فارغة. كانوا يفعلون ذلك لاظهار ولائهم للقوات الاميركية وطمعا بالدولارات او مصادرة هذه المزارع لصالحهم، بل هناك من كان يأتي ويطلب منهم مباشرة التعاون مقابل اجور محددة، حتى ان سكوت، قال متألما: "المشكلة انهم لا يتمتعون بشعور العمل من اجل وطنهم وشعبهم انهم يريدون ان يفعلوا اي شيء من اجل الحصول على الدولارات، يقدمون الوشايات الكيدية، او يبلغونا عن اخبار كاذبة، ويسالون اولا عما سندفعه لهم".  لكن اغرب ما شهدته، كانت مجموعة ممن قدموا انفسهم كمثقفين ووجهاء النجف، ومعهم رسالة الى الرئيس بوش يهنؤونه بالنصر على صدام حسين ويتعهدون له بالاخلاص. كانت الرسالة تتكون من اربع صفحات طلبوا مني ترجمتها لـسكوت مباشرة، وكان اسلوب صياغتها لا يختلف عن صياغة الرسائل الولاء التي كانت توجه الى صدام حسين، وقد تضمنت ابياتا من الشعر والامثال. عندما قرأت الرسالة قلت لهم "هذا بوش وليس صدام، وهو لا يفهم هذا الاسلوب من الكتابات، ارسلوا له ثلاثة سطور ويكفي"، وعندما استمع سكوت للترجمة شبه الحرفية للرسالة استغرق في الضحك، وقال:"ارجوكم لا تعلموا الرئيس بوش على مثل هذه الاساليب فليس عندنا من يكتب له القصائد والاغاني". 

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب