رووداو ديجيتال
رأى المفكر العراقي الإسلامي، رحيم أبو رغيف الموسوي، أنه لا مكان للإسلام السياسي الذي يدعو إلى أيديولوجية الإقصاء والتهميش وفرض الأحكام الشرعية بالقوة، في مستقبل المنطقة العربية والإسلامية.
وجاء ذلك خلال مقابلة أجراها معه نوينر فاتح، عبر شبكة رووداو الإعلامية، اليوم الجمعة (1 تشرين الثاني 2024).
وأدناه نص الحوار:
رووداو: طالما نسمعك ترفض أن تُسمى بالمفكر الإسلامي وأيضاً لا تحب كلمة الإسلام وتقول إنك مسلم ولست إسلامياً.. ما الفرق بين المسلم والإسلامي؟
رحيم أبو رغيف: رغم أن سؤالك يتضمن جواباً من هذه الناحية، لكني لا أحب أو أميل إلى هذا الوصف، وللتصويب يعني أنني أساساً لست إسلامياً، بل مسلماً، لأن اصطلاح "الإسلامي" يشير إلى من يتبنى الإسلام منهجاً أيديولوجياً، كما هو الحال مع الإخوان وبعض الحركات السياسية الدينية التي يُخاطب منظروها عادةً بقولهم "المفكر الإسلامي." أنا مسلم، الحمد لله، بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله، لكنني لست إسلامياً؛ لأن قول "إسلامي" يعني أنني أتَبنّى رؤية أيديولوجية للفهم الديني، وهذا ليس توجهي. أنا لا أحبذ ولا أميل إلى قراءة الفهم الديني قراءةً مؤدلجة، إنما أحب أن أقرأ الفهم الديني قراءةً إيمانيةً روحيةً، لأنها سلسة وبسيطة وتلامس شغف قلوب المؤمنين بطريقة هادئة، بعيدة عن التحزب أو الأيديولوجيا.
رووداو: نفهم من قصدك أن الإسلام يحدد الإسلام ديناً أو يؤطره كدين؟
رحيم أبو رغيف: يؤطر الإسلام فهماً مؤدلجاً، المسلم يفهم الإسلام فهماً إيمانياً روحياً بعيداً عن الأدلجة، مما يعطيه بُعداً أيديولوجياً حزبياً. لذلك يرد على الألسنة الدعاة الإسلاميون. أنا أقول: المفكر المسلم ممكن مسلم، ولذلك أنا ذهبت للعراق وأنا عراقي، لأن الانتماء للعراق هو انتماء للمجد التاريخي الذي عمقه 8000 سنة، فهو أكيد أكثر مجداً من أي هوية وأي توصيف آخر بالنسبة إلي، فبحسب فهمي عندما أقول "عراق"، يعني أنني أخاطب مجداً عمره 8000 سنة.
رووداو: دائماً ما نسمعك تتحدث عن الدولة الدينية والدولة المدنية، لكن بما أن حديثنا الآن في العراق، وهناك حديث في الشارع العراقي يخص بعض القوانين، منها تعديل قانون الأحوال الشخصية، وكان هناك أيضاً قوانين أخرى في السنوات السابقة داخل مجلس النواب العراقي، هذه القوانين صوتت عليها الأحزاب الإسلامية، منها مثلاً منع أو تحريم بيع واستيراد المشروبات الكحولية.. هل تعتقد أن في العراق هناك منهجاً أو خطوة لأسلمة الدولة؟
رحيم أبو رغيف: في هذا المشهد نعود للإجابة عما تفضلت به، أي حول بناء هذا المشهد السياسي الذي تشكل في ظروف وفي سياق تاريخي مستعجل، بمعنى أن المشاريع السياسية، على فرض أن هناك مشروعاً سياسياً، عندما تتشكل في ظروف الحرب تختلف عن تشكيلها في ظروف السلام والدعاة لذلك. تشكل هذا المشهد على يد الأميركيين وبالتنسيق مع الإيرانيين، وقد تشكل بهذا الشكل، ما أعطى الجزء الأكبر إلى المعارضة الإسلامية بشقيها السني والشيعي. حتى المعارضة، بمعنى أن الجانب الآخر أيضاً هم إسلاميون، الإخوان والحزب الإسلامي، ولذلك هم من تولوا رئاسة مجلس النواب. هذا يؤكد، حتى لو أن وثيقة كل دولة، الوثيقة الحاكمة للدول ومؤسساتها، هي الدستور. الدستور هو الوثيقة الحاكمة، وبمقتضى الدستور تفهم هوية ومذهب الدولة. بالتأكيد الدستور فيه جوانب مهمة، وهو دستور مهم على مستوى المنطقة، لكن من تولى كتابة الدستور وضع فيه بعض الضوابط التي أتاحت فيما بعد للقوى السياسية أن تنحى منحى أدلجة أو أسلمة الدولة. أنت اليوم تبحث في قانون يختص بطائفة معينة في بلد فيه تعدد وتنوع، فالعراق بلد متعدد ومتنوع منذ أن خلقه الله. لذا في هذا الموضوع، على النخبة السياسية أن تلتفت وأن تعي أنه، على فرض أنها تمتلك وعياً، لا بد لها أن تعي وعياً عميقاً بأنها في بلد متنوع. فعندما تستدعي قانوناً لطائفة، فهذا معناه دعوة إلى الانقسام، إلى مزيد من الانقسام ومزيد من الكراهية؛ لأن الانقسام يعني تطرفاً يعني كراهية يعني عنفاً. لذلك أنا أدعو مخلصاً الطبقة السياسية، أهل الحل والعقد القائمين على هذا المشهد، بأن يفكروا بما سيقولون وما هي مآلات خطواتهم. فعندما تحسب خطوة وأنت يُفترض رجل دولة، يجب أن تحسب حساب أن الشعب مصدر السلطات، وهذا الشعب الذي تزعم أنه جاء بك من خلال صناديق الاقتراع يستطيع إزالتك، واليوم إرادة الشارع يمكن لها أن تندلع في أي لحظة كما شهدنا. لذلك أنا أرى أن سن هذه القوانين واصطباغ الدولة بصبغة دينية، سيقتل مدنية الدولة. لذا يجب أن تكون الدولة دولةً، فالدولة ليست إيماناً، فهي ليست ديناً كما أنها ليست مؤمنة أو كافرة. كدولة عندما نقول دولة بمعنى أننا لا نذهب إلى مفهوم الإيمان ولا إلى مفهوم الكفر، بل نذهب إلى مفهوم أن الكفر والإيمان أمران دينيان يحددان صلة العبد المؤمن بمن يعبد من عقيدة، والدولة مهمتها خدمة المواطن والناس وإقامة الحق.
رووداو: لا دين للدولة؟
رحيم أبو رغيف: ليست لها علاقة بالدين، الدولة لا هي كافرة ولا هي مؤمنة، الدولة إنما وظيفتها ومهمتها مجموعة مؤسسات دستورية فيها مواطنة وقانون ودستور ومؤسسات تقيم العدل بين رعاياها وتراعي إلى حد كبير العدالة الاجتماعية، كما تراعي تطبيق القوانين وتحقق الرخاء والخدمات، هذه هي الدولة. أما دولة يتفاقم فيها الفقر والجوع والأمية وتخنق بها الحريات فهذه ليست دولة. فعندما تذهب نحو سن وتشريع قوانين ذات جانب طائفي أو حتى قومي، فهذا سيسيئ إلى مفهوم المذهب الجمعي للدولة، مذهب العقل الجمعي للدولة. فالعقل الجمعي هو عقل الدولة، ويجب أن نعرف أننا في العراق دولة، وهذه الدولة الحاكم الوحيد فيها هو الدستور. وقراءة الدستور يجب أن تكون من قبل أهل الفهم والاختصاص لأنه هو الوثيقة الحاكمة. ووضعوا في الدستور مادة تتعارض مع دين الدولة، وفهم هذه المادة باعتقادي ليس فهماً دقيقاً، كأنما هو منح نفسه الحق. فما الذي يتعارض مع الديمقراطية ومع الدين؟ ومؤكد أن القوانين عندما تسن، يجب أن تستند إلى النظام السياسي الديمقراطي النيابي. وهذا يعني أن أعضاء مجلس النواب يمثلون ألوان وأطياف الشعب العراقي، فعندما تمنح نفسك الحق، لذلك فإن مشاريع القوانين التي في مجلس النواب ليست مشاريع معيارية بحسب ما يقتضيه الشارع والمواطن، بقدر ما هي قوانين محاصصاتية توافقية إرضائية، أي إذا كانت طائفة أو جهة أو كتلة سياسية تريد قانوناً لأتباعها، لابد أن تتحاور وتنسق مع كتلة أخرى بأن يُعطوا هذا القانون ويصوتوا لصالح ذلك القانون. فهذا هو عمل مجلس النواب، بمعنى أن مجلس النواب ليس لديه رؤية ولا دستور ثابت، في حين أن الحكومة تريد أن تعمل، لكنها أيضاً لا تستطيع إذا لم يوجد تنسيق واضح بين الحكومة كحكومة وبين مجلس النواب فيما يخص تحديد الأولويات.
فأين الأولويات عندما تجتمع الحكومة وتحاول أن تدفع مشاريع القوانين إلى مجلس النواب؟ فهذا أيضاً سيكون محكوماً بالإرادات السياسية والصراع السياسي، أي غير محكوم بأولوية الشارع وخدمة المواطن من هذه الناحية. وهذا ما أوصلنا إلى المآل الذي نحن فيه اليوم، هذا التداعي الذي نحن فيه. وسأقفز على سؤالك التالي؛ التداعي الذي نحن فيه اليوم هو نتيجة هذا الصراع الذي يجعل كل فصيل يزعم ويدعي أن له الحق في الرد بمنأى عن الدولة، وهذا سيجعل عمل الدولة وعمل المؤسسة العسكرية مضطرباً، فضلاً عن الإضرار بالسيادة. فهناك سيادة ودولة اسمها العراق، انتخب فيها مجلس وزراء ونواب، وجميع هؤلاء جاءوا بطرق وأساليب دستورية. بما أن الدستور ليس انتقائياً، فلا يمكن لأحد أن يأتي ويختار من الدستور ما يناسب مصلحته ووقته وسياقه التاريخي أو الظرفي. هذه هي المشكلة التي للأسف تتفاقم في خضم هذا الوضع الحرج والخطير وهذا الصراع الدائر.
اليوم يجب أن يكون قرار الدولة أكثر تماسكاً، وحتى يتماسك هذا القرار يجب على القوى السياسية التي تمسك بالمشهد السياسي، أي الطبقة السياسية التي جاءت برئيس مجلس الوزراء، دعم رئيس مجلس الوزراء ومؤسسات المجلس الدستورية ومؤسسات الدولة. لكن أي صراع سياسي يضعف الجميع؛ بمعنى أن القوى السياسية الآن، بكل تأكيد، عندما تتصارع تحاول مثلاً الحد من إنجازات رئيس مجلس الوزراء، وهذا إضعاف لها وليس فقط لمجلس الوزراء.
رووداو: ربما الأطراف التي تتصرف خارج الدولة أحياناً يقولون: "نحن لا ننتظر الدولة لأن لنا واجبات شرعية، مثلاً لدينا واجب الرد العين بالعين والسن بالسن، وأيضاً واجب الجهاد. فلماذا ننتظر الدولة إذا كانت الدولة لا تفعل شيئاً؟ إذن أليس لهم الحق في ذلك؟"
رحيم أبو رغيف: لا، الدولة ليست مؤسسة دينية، وهذه المهمة ووظيفة المؤسسة الدينية هي من تتولى هذه التشريعات وهي من تتولى هذه الأحكام وبيانها وترويجها، والمتمثلة بمراجع وفقهاء وعلماء وفضلاء ودارسين في علوم الشريعة. فهذا كلام يختص بمؤسسة دينية، أما عندما نقول كلام دولة، فالدولة هي الأب وهي التي تتولى رعاية كل مؤسسات الدولة، ومن جملتها المؤسسة الدينية، التي يجب أن تكون خاضعة للدولة؛ لأن المؤسسة الدينية جزء من الدولة. والمؤسسة الدينية هي مجموعة أفراد متخصصين في علوم الدين، الفقه والأصول والشريعة وعلم الكلام، ونحو ذلك من العلوم التي يتدارسها طلبة العلوم الدينية، وهم مواطنون في الأصل أولاً، وبالذات مواطنون عراقيون مثل كل المواطنين الآخرين.
أنا باعتقادي، ليس من مهمتك أن تحدد تكليفك الشرعي من خلال منصة الدولة، لا تحاول أن تستخدم الدولة كمنصة لإنفاذ أحكامك الشرعية، لأنك في دولة بها تعدد وتنوع، ومثلما أن لك وجوداً وحضوراً وحقاً في هذه الدولة وتاريخها ومجدها الحضاري، فلغيرك الحق أيضاً، فهي اسمها جمهورية العراق.
العراق اليوم عنوانه جمهورية العراق، لا جمهورية العرب ولا جمهورية المسلمين ولا جمهورية المسيحيين ولا جمهورية الكورد، إنما هي جمهورية العراق، يعني العراقيين. بمعنى أنه عندما تمنح نفسك الحق في تشريع القوانين وإصدارها وفق الآليات المعروفة في مجلس النواب فهذا صحيح، أما أن تنفرد بقرارك بدعوى أنك مكلف تكليفاً شرعياً، فكلنا مكلفون شرعياً.
رووداو: ربما يقولون نحن ننفرد لأننا مكلفون شرعياً في ذلك ويستندون إلى الشريعة، لكن إلى ماذا تستند أنت ضمن الشريعة والدين عندما تقول يجب حتى على المؤسسة الدينية أن تكون خاضعة للدولة، ويجب أن ننتظر هناك أمور على الدولة القيام بها وليس الأفراد؟
رحيم أبو رغيف: في هذه القضية، الدين إيمان، وفكرة الإيمان هي مطلقة ومتعالية تتصل بالخالق سبحانه وتعالى من خلال أنبياء ورسل، وهي قضية إيمان.
رووداو: إذن هناك اختلاف بين نظرتك إلى الدين ونظرته إلى الدين؟
رحيم أبو رغيف: أنا أتحدث عن نظرة الأعم الأكبر، أنا منخرط في رؤية الأعم الأكبر مما عليه علماء وفقهاء أخذوا علومهم من القرآن ومن أئمة أهل البيت ومن الصحابة المنتجبين. الدين فيه مقاصد، وواحدة من أهم مقاصد الدين هي أن هناك فرقاً بين مقاصد الدين ومقاصد الشريعة. مقاصد الشريعة أدنى، ولو أنها في الأصل يُراد بها مقاصد الدين، لكن الآن في العرف لدى الدارسين تعتبر أدنى. فهناك مقاصد الإيمان، أي المقاصد التي وجد من أجلها الدين، والدين وجد لينظم الحياة بين الناس، ولا يمكن تصور تنظيم للحياة دون وجود نظام حقيقي يرعى مصلحة الإنسان. ينقل لنا ما يُنسب إلى الإمام عليّ بن أبي طالب، "الله الله في نظم أمركم، الله الله في نظمكم." كيف يمكن أن تنتظم الأمور دون وجود نظام حقيقي يرعى مصلحة الإنسان؟
فأنا ما يهمني اليوم، وحتى الخالق سبحانه وتعالى الذي أرسل الأديان، هو مقدار مصلحة الإنسان في تنظيم هذا الأمر. بما أن الدولة شيء نوعي، فإن السياق التاريخي لدى مليارات البشر اليوم هو الدولة. إذن، الدولة يجب أن تحظى بأولويتها لأنها معنية بمصلحة البشر ووجودهم. بمعنى أن الخطر الوجودي على البشر تحدده الدولة وليس رجل الدين. الرأي الآخر يقول إنه لرجل الدين الحق والكلمة الفصل، وأنا لست مع هذا الرأي مع كل الاحترام لأصحاب هذا الرأي. أنا على رأي الأكثر والأعم الأغلب من جمهور المسلمين بأن الدولة لها مؤسساتها، لها دستورها، لها عملها، وهي تعمل وفق المقاصد العليا السامية وأسمى هذه المقاصد هو حفظ الإنسان. أسمى مقصد هو حفظ الإنسان، فكيف نحقق أن نحفظ النفس المحترمة للبشر؟ كيف يُتصور أننا اليوم ندافع عن وجود وكيان بشر موجود من حقه أن يعيش حراً كريماً في بلد؟ "ولقد كرمنا بني آدم"، فكيف نكرم بني آدم؟
أنت اليوم في بلد مكون من أكثر من طائفة وأكثر من لون وأكثر من ثقافة، وتريد أن تستأثر وأن تحاول أن تختزل هذا البلد بكل أطيافه في طائفة واحدة حتى وإن كانت هي الأعم الأغلب. لكن الطائفة الكبيرة لا تمنح نفسها الحق بإقصاء الآخرين. إنما اليوم أنا باعتقادي أتمنى مخلصاً على إخواني في مجلس النواب وعلى أهل الحل والعقد وعلى الآباء في العملية السياسية أن يذهبوا إلى مراجعة ويجلسوا لإعادة تقييم الأمور. ولا بأس أن يكون معهم من أهل الحل والعقد من الحكماء من الناس، وأن يراجعوا لماذا وصلوا بالبلد إلى هذا الحد. خصوصاً أن هناك اليوم إنجازاً للحكومة يمكن أن يُقال عنه إنه إنجاز، لكن حتى هذا الإنجاز يحاولون التقليل من أهميته، دون أن نعرف لماذا، كأنما بينهما ما صنع الحداد، كأنما المكاسب والمغانم هي المشروع، بسبب غياب مشروع الدولة ووجود مشروع السلطة.
رووداو: الدولة الإسلامية، هل هناك أي باب لهذا المصطلح أو هذا التكليف في القرآن؟
رحيم أبو رغيف: هذه قضية إشكالية عميقة، أولاً دعنا نتفق: هل الله تعالى طالب منا إقامة دولة إسلامية؟ أين؟ دعنا نتأمل ونتجرد من كل شيء وبموضوعية. نحن كمسلمين، هل طُلب منا من قبل الله تعالى، من خلال نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقيم دولة؟ إذا أمر بإقامة دولة، فبأي نص؟ وهذا القرآن بين أيدينا.
هل أخبرنا النبي أنه جاء من قبل الله تعالى ليحكم بيننا ببناء دولة أو بالإيمان والبينات؟ هذا الموضوع يحتاج إلى تحقيق وإعادة قراءة ومراجعة. المشكلة أن بعض الإخوة لا يتحملون أن رحيم أبو رغيف ينكر. أنا لا أنكر الدولة، أنا أقول إنني لم أجد، ولم أحظَ، كما تقرأ أنت، فمثلما قرأت الأدلة ودلالة الأدلة وانتهى بك فهمك إلى هذا الرأي، أنا كذلك قرأتها، لكن لم أجد دولة. لذلك أطالبهم ببيان أين الدولة التي أرادها الله تعالى في القرآن؟ وأين الدولة التي أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا يوجد جواب.
رووداو: ماذا تقول عن حكم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة؟
رحيم أبو رغيف: النبي صلى الله عليه وسلم هو نبي ورسول، أقام في المدينة، لكنه لم يكن حاكماً.
رووداو: أليس حاكماً؟
رحيم أبو رغيف: النبي أعلى من الحاكم، والغريب أنهم يحتجون بقضية تخفف من منزلة النبي. فأيهما أرفع، الحاكم أم النبي؟ أيهما أرفع منزلةً ومكانةً؟ لو أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون النبي حاكماً أو زعيماً أو رئيساً لوصفه بذلك. ما الذي منع من وصف النبي بالحاكم أو رئيس الدولة أو الزعيم؟ ولو افترضنا وتنزلنا وقلنا نعم، أن الله أمره بأن يقيم دولة، فما هو اسم هذه الدولة؟ إسلامية أم ماذا؟ جمهورية، ملكية، دينية، ثيوقراطية؟ ما هي قوانينها؟ بمعنى أنه لو جئنا بكتاب الله سبحانه وتعالى وأردنا أن نقيم به دولة في ضوء هذا النظام العالمي الجديد وفي ضوء ما عليه العالم اليوم، لماذا نحاول أن نستلهم ونستدعي الماضي بكل تراكماته وحمولاته وسياقه التاريخي، ونعتقد أننا من خلال هذا السياق التاريخي نواكب العصر ونستطيع أن نحقق وجودنا مثل سائر البشر؟ كيف يمكن ذلك؟ فأين الدولة؟
رووداو: هذا يجرنا إلى سؤال آخر، إذن لا وجود لسلطة بمعنى تكليف في القرآن، إذن ما تفسيرك للخلفاء؟ إذن لا تكليف شرعي للخلفاء أيضاً؟
رحيم أبو رغيف: ما يخص الخلفاء، لا وجود لا في القرآن ولا في السنة للخلافة، وإن أرادوا أن يهاجموني فليهاجموني.
رووداو: أيعني لا خلافة في الإسلام؟
رحيم أبو رغيف: أنا لا أقول إنه ليس هناك خلافة في دين الإسلام، إنما أقول إن الخلافة استحسنها أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وعبروا عنها بالخلافة. أما الله سبحانه وتعالى فلم يصفهم بالخلفاء، ولم يرد في القرآن الكريم أن هناك خلفاء، ولم يخبرنا النبي صلى الله عليه وآله بأسماء الخلفاء الراشدين. لكن اجتمع الصحابة واستحسنوا وجود من يخلف النبي صلى الله عليه وآله في شؤون أمر المسلمين، وليس في إدارة الدولة، بل للحفاظ على الأحكام الشرعية والدين والإيمان لكي لا يضيع الدين. ولذلك صارت حروب الردة، وهذه الحروب حدثت لامتناع الناس عن الزكاة، حيث امتنع بعضهم عن أداء بعض الأحكام الشرعية.
رووداو: ألم يمارس الخلفاء سلطة الزعيم؟
رحيم أبو رغيف: لا، إنما مارسوا توصيفاً دينياً لوظيفتهم، مارسوا وظيفتهم الدينية في حفظ الدين وإرساء وتكريس الأحكام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومنع الناس من الانحراف عن التعاليم التي جاء بها النبي للأمة، وهذه كانت كل وظيفتهم. لأن الجزيرة كانت خاضعة أساساً لإمبراطوريتين كبيرتين: الروم والفرس، فأي دولة؟
رووداو: إذن، الخلافة هي اجتهاد دنيوي لضبط أمور الدين للخلفاء وليس هناك تكليف شرعي في القرآن؟
رحيم أبو رغيف: أبداً، لم يرد نص في القرآن بالخلافة. النص لم يرد لا من النبي ولا من القرآن.
رووداو: إذن ما ترتب على الخلافة والصراعات الداخلية ما بعد الخلافة هي صراعات دنيوية سلطوية لا أساس لها في الدين؟
رحيم أبو رغيف: بكل تأكيد، لأن الخليفة أراد أن يحفظ بيضة الإسلام والمسلمين، سميها بيضة الإسلام، أراد أن يحفظ أحكام الله سبحانه وتعالى، وأراد أن يحفظ ما جاء به النبي لأن الناس بعد وفاة النبي كأنما اهتزت قيمهم لدى البعض، وظنوا أن بعد وفاة النبي انتهى الإسلام. فاجتمع المسلمون فيما بينهم واجتهدوا على وجود من يخلف النبي في أداء وفي الحفاظ على ما جاء به النبي من رسالة ومن أحكام ومن بيان.
رووداو: ربما لم يسألك أحد صراحة هذا السؤال، أنت من النجف؟
رحيم أبو رغيف: لا، أنا لست من النجف، لكن درست في حوزة النجف.
رووداو: بمن تأثرت أولاً فكرياً لكي تتحدث ما تتحدث به اليوم؟
رحيم أبو رغيف: من أكثر الفلاسفة الذين كان لهم تأثير بارز في ذهني هو الفيلسوف المثالي الألماني النقدي إيمانويل كانت. طبعاً قبل ذلك تأثرت بسقراط، فالفلسفة الإغريقية بكل تأكيد هي الأصل في ذلك. لكن في الفلسفة الحديثة هناك فيلسوفان اثنان أثرا بشكل عميق في ذائقتي وفي فهم الأمور، وهما كانت ولودفيغ فتغنشتاين، الذي هو أحد الفلاسفة النمساويين الذين أثّروا على حلقة فيينا، والتي تُسمى الدائرة الفلسفية لفيينا.
رووداو: هذا لم يكن جزءاً من دراسة الحوزة؟
رحيم أبو رغيف: لا أبداً، ليس له علاقة.
رووداو: هل هناك الكثير من طلبة الحوزة يدرسون الفلسفة؟
رحيم أبو رغيف: يدرسون الفلسفة الإلهية وليست الوضعية، يدرسون فلاسفة المسلمين، أما الاتجاهات الفلسفية الوضعية فلا يميلون إلى دراستها، بل يميلون إلى دراسة منهج محدد في الحوزات العلمية. حتى الآن لم أرَ أحداً، وربما البعض يجد في ذلك انحرافاً أن تقرأ الفكر الفلسفي، مع أن القرآن على العكس من ذلك دعانا إلى مزيد من التفكر، وآيات التفكر دعَت إلى استخدام العقل وتوظيفه. فالأئمة عليهم السلام، كل الأحداث والأخبار تدعو إلى التفكر وإلى طلب العلم، وطلب العلم لم يتحدد في العلم الديني إنما جاء مطلقاً، والمطلق يجري على إطلاقه كما تعلم. فكل الأحداث والأخبار والروايات التي دعت وحثت ورغّبت في طلب العلم، جعلت لنا ذلك، وأنا قرأت كثيراً وما زلت أقرأ، فما زلت طالب علم أقرأ كما يقرأ غيري.
رووداو: مشاهدو رووداو، خاصة الآن من الكورد، عندما يسمعونك ليسوا ملمين بتفاصيل الحوزة، لكن أود منك شرحاً مبسطاً عن ما هو الاختلاف بين الحوزة في النجف أو المرجعية في النجف وبين المرجعية في قم أو نظرية ولاية الفقيه؟
رحيم أبو رغيف: كحوزة كمؤسسة تعليمية علمية، لا يختلفان كتوجه. الاتجاه في الغالب، بعد عام 1979 وبعد انتصار الثورة الإيرانية، صار التوجه العام لدى الحوزة في قم هو ولاية الفقيه، بمعنى أن الفقيه يرى أن له ولاية على الناس، وليس فقط وظيفته بيان أحكام الله وترويجها. الفقيه لدينا في الاتجاه العام لدى الشيعة الإمامية التقليدية، كما هو الحال لدى السيد السيستاني وقبل السيد الخوئي والسيد الحكيم، هو أن للفقه ولاية على الأمور الحسبية في غير مورد الدولة والحزب وما إلى ذلك. الاتجاه الآخر بعد عام 1979 قال إن الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء والتقليد، مهمته أن تكون له الولاية العامة على البلاد والعباد في الدماء والفروج والأموال وولاية مطلقة. أنا، بكل تأكيد، لست مع هذا الرأي؛ أنا مع الولاية الخاصة التي تتعلق بالأمور الحسبية، وأن يكون ولي من لا مالك له وولي من لا ولي له، في الأمور المتعلقة بالأمور الحسبية.
رووداو: المرجعية من زمن الشيخ الطوسي إلى عام 1979 كان هذا هو التوجه...
رحيم أبو رغيف: في النجف إلى الآن، وحتى في قم الآن إذا قمت بالبحث، ستجد أن أكثر فقهاء قم وإيران بشكل عام ليسوا على مبنى ولاية الفقيه. لكن الدولة الإيرانية، وهنا يجب أن نميز، فهناك دولة وثورة، وهما اتجاهان يحكمان إيران، مؤسسة الدولة ومؤسسة الثورة، وكل منهما له مزاجه في التعاطي مع مجريات الأحداث. والدولة الإيرانية اليوم، الرأس الأعلى فيها هو ولي الفقيه.
رووداو: بمن تأثر ولي الفقيه كمرجعيات فكرية؟
رحيم أبو رغيف: ولاية الفقيه موجودة أصلاً عند جمهور المسلمين السنة، لأن أصل الولاية وعمدة الأدلة في الولاية هي رواية مقبولة يسمونها "مقبولة عمر بن حنظلة"، وبدأت فكرة الولاية في زمن الكركي.
رووداو: إذن، الخلفية هي خلفية أهل السنة؟
رحيم أبو رغيف: في الأصل عند أهل السنة، لأن أصل الرواية التي اعتمد عليها فقهاء الشيعة الذاهبون إلى ولاية الفقيه هي سنية، وهذه المقبولة عند جمهور السنة ضعيفة، لذلك سميت بالمقبولة "مقبولة عمر بن حنظلة". وطبعاً جاؤوا بأدلة تعضد هذا الضعف وتجبره، من خلال ابن السكوني وأبو خديجة وروايات أخرى جاء بها بعض الفقهاء الذين يتبنون ولاية الفقيه لتعضيد القول بولاية الفقيه في أدلتهم.
رووداو: يعني أن أصل ولاية الفقيه هو سني.. تصوّر ردود الأفعال حول هذا الرأي.
رحيم أبو رغيف: لا، موجودة في المباحث، وعمدة الأدلة في قول الفقيه هي مقبولة عمر بن حنظلة.
رووداو: أصل الإسلام السياسي، شيعياً وسنياً، أعتقد أنه يعود للإخوان المسلمين؟
رحيم أبو رغيف: حديثاً، نعم يعود للإخوان. الإخوان، بعد انتهاء السلطنة العثمانية، اجتمع نفر من الدعاة وظنوا أن انتهاء السلطنة العثمانية هو انهيار للإسلام، فشعروا بضرورة بناء كيان، وبدأوا بكيان سموه الإخوان المسلمين.
رووداو: الإسلام السياسي الشيعي أيضاً تأثر بالإخوان؟
رحيم أبو رغيف: في العصر الحديث، الإخوان هم الرحم الفكري والحركي لجميع ما نعبر عنه بالإسلام السياسي، وجميع حركات التطرف تنتمي إلى المدونة العقدية للإخوان، وبالتحديد إلى سيد قطب رحمه الله. حتى الفكر الحركي الشيعي استمد واستلهم من سيد قطب إلى يومنا هذا.
رووداو: المنطقة تمر بأزمة، وهناك تسميات كثيرة، لكن الإسلام السياسي عموماً في المنطقة هو جزء كبير من كل ما يحدث.. ما تصورك للمستقبل، هل الإسلام السياسي هو من سيحكم؟
رحيم أبو رغيف: أبداً، المستقبل لإسلام الروح والإيمان، لإسلام السلام والمحبة والخير، هذا الإسلام الذي يلامس شغف قلوب الناس، وليس الإسلام الذي يدعو إلى أيديولوجية الإقصاء والتهميش وفرض الأحكام الشرعية بالقوة. فهذا لا أعتقد أن هناك من يؤيده لأن مؤيديه بدأوا ينحسرون، فلم يعد مقبولاً هذا المنطق في المعمورة العربية والإسلامية الذي يقول بوجوب إقامة لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ يسبب مشاكل. الآن، أكثر الكراهية التي ظهرت وانعكس عنها التطرف والعنف، هي نتيجة كراهية الانقسام التي تسبب بها الإسلامويون، إذا جاز التعبير، الذين يحاولون العمل على قاعدة "من لم يكن معنا فهو ضدنا"، بمعنى أنك إن لم تكن مع رؤيتهم في فهم الإسلام، وأن الإسلام يجب أن يقوم على السيف، وأن الآيات التي جاءت تدعو إلى المحبة والحوار والسلام منسوخة بآية السيف، وما ترتب على آية السيف من ويلات وحروب ودماء وإزهاق للأرواح، ظن منهم أنهم منصبون من قبل الله سبحانه وتعالى قضاة.
لذلك، حسن ما فعل مرشد الجماعة الشيخ حسن الهضيبي عندما كتب كتاباً صدر عنه بعنوان "دعاة لا قضاة"، لذا يجب أن نكون دعاة إلى الخير والمعروف، وأن نعرّف الناس بأن الإسلام هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته وأصحابه وأهل بيته. فالنبي وأهل بيته جاءوا بإسلام محبة وخير وإصلاح ذات البين، والحسين خرج ليقول "لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، ولكني خرجت لطلب الإصلاح". كلمة "الإصلاح" تشمل وتشمل كل شيء، أصلح بينك وبين أخيك، أصلح بينك وبين جارك، أصلح شأن الدولة في إدارة الرعية. هذه كلها متعلقة بالإصلاح، ونحن اليوم أحوج ما نكون في هذه المعمورة وفي هذا البلد إلى إصلاح شأنه، إصلاح شأن مؤسسة الدولة، وإصلاح شأن الناس من خلال مواجهة الفقر، بمعنى محاولة دعم الفقير ورفعه من الفقر إلى اللافقر. حالة الفقر المتفاقم التي لدينا من الجوع والحاجة وما إلى ذلك، هذه أولى بكثير من أن تؤسس لحزب وتكتنز الأموال.
نعم، لدينا خصم وعدو، لا أقول إنه علينا أن نستسلم، لكن طالما أن هناك مجالاً ومندوحةً للحوار، إذن علينا أن نقدم الحوار أولاً وآخراً بالمنطق السليم والصحيح.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً