رووداو ديجيتال
لم يكن سمير مزبان يخطط لأن يكون مصوراً فوتوغرافياً، بل كان يحلم بأن يصبح فناناً تشكيلياً، لكن ذات يوم، وهو عائد إلى بيته في بغداد، عرّج بالصدفة على قاعة الفن الحديث (كولبنكيان) لمشاهدة أعمال المصور العراقي المبدع، وأستاذ المصورين العراقيين، جاسم الزبيدي، الذي كان يعرض أعماله التي التقطها في ظفار خلال الحرب آنذاك. هناك وجد ضالته، وأدرك أنه يستطيع إنتاج أعمال فنية إبداعية بواسطة العدسة والعين الثالثة إذا أتقن التقاط اللحظة المناسبة. وهكذا بدأ يتعلم فن التصوير الفوتوغرافي وينخرط في تياره تدريجياً، إذ تتلمذ على أعمال الزبيدي وعلى يد المصور المبدع فؤاد شاكر.
سمير مزبان، مصور صحفي، عمل في غالبية الصحف العراقية بداية مع صوت الطلبة ومجلة المرأة قبل أن يحترف التصوير في وكالة الأنباء العراقية، حيث التقط صوراً تحكي قصصاً عن الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج (الكويت)، ثم عمل لصالح أسوشيتد بريس (AP) وغطى أحداث الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. كان فناناً مبدعاً، يرسم الصورة في ذهنه قبل أن يلتقطها، إضافةً إلى كونه إنساناً حساساً، مثل حساسية أفلام كاميرته التي يصطاد بواسطتها اللحظة الراهنة. كان صديقنا نحن الصحفيين، يمدنا بكل ما نحتاج إليه من لقطات عصية على مصورين آخرين، فهو من جيل أبدع في رسم صور الحياة والحرب، مثل المصورين المبدعين فالح خيبر وصباح عرار وهادي النجار وآخرين.
قبل ثلاثة أيام، فوجئنا جميعاً بخبر صغير ومفجع يتحدث عن رحيله المفاجئ في ستوكهولم، حيث كان يقيم، إثر جلطة دماغية حادة. قبلها بيوم واحد، كنا نتحدث عن سلسلة جوائزه الأخيرة في السويد، ذلك أن سمير مزبان كان صياداً للجوائز العالمية الراقية، ولعل أهمها جائزة "بوليتزر" التي حصل عليها عام 2005، كما فاز بجائزة تقديرية وعينية في معرض "إنتر برس فوتو" الذي تقيمه منظمة الصحفيين المصورين الشباب الألمان.
وجوائز "بوليتزر" التي قُدمت لأول مرة عام 1917، هي أرفع الجوائز في الصحافة الأميركية، وتكرم أفضل الصحافيين سنوياً في 15 فئة، بالإضافة إلى ثماني فئات فنية تركز على الكتب والموسيقى والمسرح. والفائز بالخدمة العامة يحصل على ميدالية ذهبية، فيما يحصل جميع الفائزين الآخرين على 15 ألف دولار. هذا يضاف إلى الجوائز التي تمنحها الصحافة السويدية ضمن فئات مختلفة كان سمير مزبان فخوراً بالحصول عليها.
يتحدث عنه صديقه الأثير ورفيق مسيرته في التصوير الفوتوغرافي، صباح عرار، الذي زامله في وكالة الأنباء العراقية، وكان مصور وكالة الأنباء الفرنسية في العراق، قائلاً: "تعرفت عليه في وكالة الأنباء العراقية، يوم كانت واحدة من أفضل وكالات الأنباء عربياً ودولياً. كان كلانا مصوراً في قسم الأخبار والتحقيقات، وكان يهتم بتقنيات بناء الصورة كلوحة فنية، ورغم أن الصورة الصحفية تحتاج السرعة، لكنه كان يحافظ على كل اشتراطات الصورة من سرعة ومهنية وبناء لقطات إبداعية، وكان يحرص على أن تكون الصورة هي القصة ذاتها وتستغني عن الكلام. كان له حس فريد ومتميز في مجال الصورة الصحفية."
إلى جانب اهتمامه بالتصوير فنياً، اهتم مزبان أيضاً بالعمل المهني ضمن الجمعية العراقية للتصوير، حيث انتُخب كعضو هيئة إدارية، ثم أمين سر الجمعية لسنوات عديدة، وكان أحد المؤسسين للاتحاد المصورين العرب، ورئيس فرع أوروبا للاتحاد في السويد. له عشرات المعارض الشخصية، وكان أولها في تونس بدعم من الصحفي القدير طه البصري، رئيس تحرير وكالة الأنباء العراقية. شارك في العشرات من المعارض المحلية والعربية والعالمية وحصل على عشرات الجوائز والمئات من شهادات التقدير.
واجه سمير مزبان، كغيره من الصحفيين العراقيين، العديد من المواقف الصعبة والعنيفة خلال تغطيته أحداث العنف والتفجيرات، وتعرض لمحاولة اختطاف بعد أن قُتل سائق السيارة التي كانت تقله في إحدى المرات. لكن الفاجعة الأكبر التي خربت حياته وحياة عائلته كانت اختطاف ولده أحمد، الشاب الذي كان طالباً في معهد الفنون الجميلة عام 2007، والذي لم يعد حتى اليوم، مما دفع سمير وزوجته وابنتيه لمغادرة العراق إلى السويد عام 2010، وهو الذي كان يعارض بقوة فكرة الهجرة والعيش في الغربة، إذ كان يعشق العراق، وكان يقول: "لم أتخيل أنه سيأتي يوم أطلب فيه اللجوء إلى بلد آخر لأعيش فيه بعيداً عن العراق."
في السويد، عاش تجربة جديدة في بيئة مختلفة، ووظف هذه التجربة في أعمال فنية ملفتة، مما دفع العديد من الصحف والمجلات العالمية لنشر أعماله في الصفحات الأولى، كما استثمر السوشال ميديا لنشر الصور الفنية والسياحية.
ويصف عرار تجربة صديقه الراحل سمير مزبان، الذي تعرف عليه منذ أكثر من ربع قرن، قائلاً: "كان متجدداً، صاحب خبرة فريدة ومهنية راقية في مجال البورتريه والصور الطبيعية التي تتطلب الخبرة والدقة العلمية في السلويت والإيقاع البطيء، وأحياناً في التقاط حركة الطيور وجمال الخلفية."
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً