كتاب "العراق قرن من الافلاس" والبحث عن الهوية الوطنية المفقودة

25-09-2023
معد فياض
الكلمات الدالة عادل بكوان العراق اقليم كوردستان
A+ A-
رووداو ديجيتال

يختلف كتاب "العراق قرن من الافلاس من عام 1921 إلى اليوم" لعالم الاجتماع عادل بكوان، نقله عن الفرنسية وسام سعادة، عن سواه من البحوث في الموضوع العراقي لاسباب عديدة، في مقدمتها ان الباحث انحاز تماما الى الموضوعية، واعتمد في بحثه على الانتماء او الهوية الوطنية للمكونات العراقية دون الانحياز لقومية او دين او مذهب او مدينة، ثم انه حصن بحثه القيم باحصائيات وارقام موثوقة ودقيقة ومعلومات استندت الى حوادث واقعية. لقد ضمن الباحث كتابه بآرائه واستنتاجاته المنطقية والغنية بالاعتماد على تحليلات علمية دقيقة للغاية صاغها باسلوب لغوي يستدرج القارئ. ولا غرابة في ذلك والباحث، بكوان، عالم اجتماع عراقي فرنسي. هو مدير "المركز الفرنسي للأبحاث والدراسات العراقيّة" في فرنسا (CFRI)، وعضو في "معهد الأبحاث والدراسات المتوسطية والشرق الأوسطية"  (IREMMO)، وباحث مشارك في "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI)"، و"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس (Carep)".
 
يستهل باكوان كتابه بنشر رسالة، شهادة الشاب احمد، عمره 24 سنة، من البصرة ادلى بها للمؤلف في نيسان 2021، وهو خريج يعمل في قطاع الصحة ووالده يعمل في الحشد الشعبي، والتي يلخص فيها وضعه الحياتي البائس والذي يصفه بـ "الجحيم"، وهو يتساءل: "كيف وصلنا الى هنا؟ من المسؤول عن تعاستنا؟ والجواب بلا ريب ان النخب التي تحكمنا منذ 2003 هي المسؤولة عن كل ذلك. ولهذا السبب ننتفض بلا كلل ضدها". وفي جانب من الرسالة يكتب الشاب احمد: "عام 2014 جرى التأسيس للحشد الشعبي للكفاح ضد (داعش). لكن الحشد تحول اليوم للكفاح ضدنا.. في الواقع، الحشد هو المدار من قبل ايران.. هنا كل شيء ايراني. ايران حاضرة في كل مكان". 
 
بالرغم من ان كتاب "العراق قرن من الافلاس من عام 1921 إلى اليوم"، يستعرض بلا تفاصيل، تاريخ قيام العراق منذ قيامه قبل 8 الاف عام، الا انه محاولة جريئة ومتأنية في آن واحد لتدوين التاريخ الاجتماعي والآيدولوجي لتأسيس العراق على مدى قرن من السنين. والافلاس هنا هو فقدان الهوية الوطنية، وهو بالحقيقة قصة بلد يحاول ان يقوم كدولة لها مؤسساتها ومجتمعها او مجتمعاتها منذ ان قيامه على يد الملك فيصل الاول عام 1921، الذي اتّخذ من تأسيسه هدفًا له  ليوحّد شيعة الجنوب وسنّة الوسط وكرد الشمال. ويضع الكاتب، بكوان، وصف الملك فيصل الثاني الذي ورد في مذكراته عن الشعب العراقي ليهيئنا كمتلقين لما كان وما سيكون عليه العراقيون:" أقول وقلبي ملآن أسىً.. إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل شعبا نهذبه وندرّبه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف يجب أن يعلم أيضا عظم الجهود التي يجب صرفها لاتمام هذا التكوين وهذا التشكيل..هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي". وفي هذا التقديم يريد الباحث ان يوضح لنا كقراء حال العراق باعتباره  كيان لا يزال، حتّى اليوم، فريسة التدخّلات الخارجية البريطانيّة والأميركيّة والإيرانيّة على المستوى العالمي، بينما تقوّضه داخليًّا تدخّلات المؤسّسة الدينيّة وانتشار الفساد وسيطرة الأحزاب على موارد البلاد ومَليَشات الدولة. فهل من أملٍ في انتهاء هذا التخبّط؟ هل تتجاوز ألوان الطيف ألوانها فتبصر القوميّة العراقيّة النور ويستدلّ العراق إلى نفسه؟ "إلى أن تنخرط النخبُ العراقية في عمليّة مراجعة جماعيّة وتحليل لهذا "القرن من الإفلاس"، وهو الافلاس السياسي والافلاس من الهوية الوطنية، فمن غير المُرجّح أن تُشفى البلاد من أمراضها المُزمنة".
 
أقلية متغطرسة
 
كتاب "العراق قرن من الافلاس" يقع في 239 صفحة من القطع المتوسط ، مقسم على ثلاثة أجزاء، و 12 فصلا وخاتمة وتسلسل تاريخي، وصادر عن(نوفل ، دمغة الناشر هاشيت انطوان) في تموز 2023. يتناول في الجزء الاول مملكة العراق: حكم أقلية متغطرسة (1921- 1958).  والذي يناقش فيه وعبر ثلاثة فصول: أسطرة الدولة العراقية، التقليد العراقي الضارب في القدم، دولة بلا أمة وولادة دولة وحشية،: حدثت ولادة الدولة في العراق في سياق شرق اوسطي شكلته القوى العظمى ما بين عامي 1916 و1925. فقد صاغت فرنسا وبريطانيا العظمى الشرق الاوسط بما يتناسب مع مصالحها بين هذين التاريخين المذكورين".مستعرضا تاريخ الصراعات الاثنية والمذهبية بين العراقيين:"فإن استخدام العنف الراديكالي ضد المجتمع العراقي جاء ليستبعد اي امكانية للترابط سواء باسم الاخوة الاسلامية (الكورد والعرب مختلفون اثنيا لكنهم مسلمون دينيا) او باسم الاخوة العربية (الشيعة والسنة مختلفون مذهبيا لكنهم عرب اثنيا).بتفاقمتها هذه التصدعات المجتمعية أرست الدولة العراقية، وما كان اشتد عودها بعد، منطلقات التهشم والتفكك والانقسام".
 
ويستعرض الكتاب سيطرة السنة، التي اطلق عليهم الكاتب وصف (أقلية متغطرسة)،  وتعاونهم مع العثمانيين من اجل السلطة، لكنهم، السنة، تخلوا عن دعم العثمانيين مع انتصار بريطانيا عليهم واحتلالهم للعراق تحت مسمى "(تحالف مقدس) بين المحتلين والنخب المحلية من السنة"، في حين تم اقصاء الشيعة والكورد. هذا (التحالف المقدس) أنتج عملية "تسنين الدولة"، متسائلا: "كيف نفهم هذه الهيمنة السنية في ميزان القوى مع الطوائف الدينية الاخرى (الشيعية بشكل اساسي) والجماعات العرقية (الكورد بشكل اساسي).  
الا ان بكوان لا يلقي كل اللوم على السنة في سيطرتهم على اهم المناصب في المملكة العراقية الجديدة، بل ينسب ذلك، ايضا، الى مقاطعة الشيعة للحكومة الجديدة. فمع اعلان "فيصل ملكا على العراق في آب 1921، اتسم مسلكهم (الشيعة) بمقاطعة العملية السياسية التي كانت قيد التبلور. وفي 5 تشرين الثاني 1922 اصدر اربع عشرة من آيات الله فتوى جديدة تمنع المشاركة في الانتخابات والانضمام الى الحكومة التي ليست"سوى عميلة للمحتلين"، وان"اي قبول بمنصب وظيفي منها هو تعاون مع عدو الله"، حسب فتوى مهدي الخالصي.
 
دولة كوردستان
 
يتناول كتاب "العراق قرن من الافلاس من عام 1921 إلى اليوم"، المحاولات الجادة  للكورد لتأسيس كيانهم المستقل بعيدا عن دولة العراق العربية، يقول: "لقد قام كورد ولاية الموصل بين عامي 1914 و1925 بكل ما في وسعهم لاعتراض عملية ادراجهم ضمن الدولة العراقية العربية من اجل اقامة دولتهم المستقلة".
 
ويعيد الباحث، عادل بكوان، الى الذاكرة، في الفصل الرابع من الكتاب، وتحت عنوان "أقليم كوردستان يصبح جزءا من العراق!" الى شهر تشرين الثاني من عام 1922: "يوم عقد مؤتمر لوزان حول شؤون الشرق الاوسط لانهاء القضايا التي نشأت عن الحرب العالمية الاولى، وترأس وفد تركيا عصمت باشا. تمثلت إحدى مهامه امام رئيس الوفد البريطاني، اللورد كرزون، دفاعه عن سيادة تركيا على ولاية الموصل". ذاكرا اعلان عصمت باشا، وتحت مبدأ حق الشعوب بتقرير مصيرها، استشارة سكان الموصل، "حول رغبتهم في البقاء تحت سلطة تركيا او الاندماج في العراق. وجاء رد كيرزون بأن الكورد في محافظة الموصل لم يظهروا اي رغبة بالبقاء ملحقين بالدولة التركية، وهم ينادون بالحماية البريطانية لهم". وخلال مؤتمر عقد برئاسة الزعيم الكوردي القومي، الشيخ محمود، في السليمانية، وكانت معقله، للنخب الكوردية القومية وبمشاركة أرنولد ويلسون، المفوض البريطاني المدني ببغداد، قال الشيخ محمود:"انتم هنا في المنطقة لتحرير الشعوب من النير التركي، ونحن جزء من هذه الشعوب. نحن نطلب الحماية والمساعدة من البريطانيين للسماح للكورد بمواكبة التقدم والتنمية. نريد كوردستان مستقلة تحت حمايتكم؟.
 
الجمهورية المحبطة
 
في الجزء الثاني من كتابه يبحث عادل بكوان "جمهورية العراق بين القومية العربية والقومية العراقية (1958 – 2003)، مستعرضا "الامة العراقية والجمهورية المحبطة" الانقلاب العسكري الذي قام به كل من عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف:" صبيحة 14 تموز 1958، اطلق الجيش العراقي، وهو اداة قمعية بامتياز، هجوما على بغداد، واضعا حدا فيه، بضربة قاصمة، لعهد الاسرة الهاشمية التي نصبها في السلطة البريطاني بيرسي كوكس منذ 1921". متناولا الصراعات الداخلية في الجمهورية الضعيفة على السلطة ، كون:"نظام قاسم السياسي كان يعاني نوعا آخر من الهشاشة، وهو أمر ليس قليل الاهمية، فنظامه ارتبط في المقام الاول بالولاء الى شخصه". لينتهي امره، عبد الكريم قاسم، الى الهاوية بقيام انقلاب 8 شباط 1963 بقيادة شريكه السابق وعدوه اللاحق عبد السلام عارف والبعثيين لتكريس نظام قومي عربي. لكن سرعان ما انقلب عارف على البعثين في تشرين الثاني من العام نفسه. لكن البعثيين عادوا الى الواجهة بانقلاب 17 تموز 1968، وظهور صدام حسين"لاعبا اساسيا في عراق متغير..مارس فيه، صدام حسين، ستراتيجية دكتاتورية حولت النظام الى مؤسسة عدوانية جدا" ضد العراقيين عامة والشيعة والكورد خاصة.
 
يبحث كتاب "العراق قرن من الافلاس من عام 1921 إلى اليوم"، في تاريخ نظام صدام حسين وحروبه الخارجية والداخلية التي انهكت العراق، و"تزامنت نهاية نظام صدام حسين في 2003 مع نهاية فترة طويلة من التأريخ الاجتماعي والسياسي للدولة العراقية، بدأت مع عبد الكريم قاسم في عام 1958، فترة مليئة بالانقلابات العسكرية والحروب وعلى وجه الخصوص المجازر الجماعية للشيعة والكورد". تلك المجازر التي راحت ضحيتها المئات من الالاف من الشيعة والكورد.
 
لم ينس الباحث ذكر تاسيس وتاريخ الحزب الشيوعي العراقي ومراحل عمله السياسي الذي سيكون عمره في العام القادم 100 عام، ويخلص الى ان اعتراف عزيز محمد السكرتير العام للحزب: "خطيئتنا اننا سلمنا للبعث ووافقنا على نداءاته، بل اننا تحالفنا مع حزب ينافي الديمقراطية".
 
بارزاني وقاسم
 
في الفصل الثامن من الكتاب "كوردستان تنفصل عن العراق"، يسهب الكاتب في البحث بتاريخ علاقة الكورد القلق مع جمهورية العراق منذ 1958. وبالرغم من تفائلهم بخطاب عبد الكريم قاسم "حول الوطنية العراقية، والامة العراقية لا العربية" قد عزز شعور التفاؤل الذي ساد بين الكورد حسب المادة 3 من دستور الجمهورية العراقية الجديدة " يعتبر العرب والكورد شركاء في هذا الوطن ويقر هذا الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقة". 
 
حتى "الناهضون بالقومية الكوردية، الممثلون بالحزب الديمقراطي الكوردستاني، وعلى رأسه الملا مصطفى بارزاني..شاركوا الشارع تفاؤله وابدوا رغبتهم في التعاون مع الجمهورية العراقية". لكن هذا التفاؤل لم يدم مفعوله طويلا، فبعد زيارة بارزاني لبغداد عام 1960:" في مسعى منه الى تهدئة الوضع، قابل الجنرال قاسم شخصيا. ولم تدم المقابلة سوى ثلاث ساعات، وعلى ما يبدو لم يكن للزعيم قاسم اي رغبة في التفاوض حول الحكم الذاتي السياسي والاداري لاقليم كوردستان. وبات الرجلان في مأزق تام".
 
تناول الكتاب في هذا الفصل التاريخ الدموي للعلاقة بين الحكومة المركزية والكورد، فمنذ "اليوم التالي لسقوط قاسم، اي منذ 9 شباط 1963 دخلت الدولة العراقية طورا جديدا من الاستقرار المزعزع بالقلاقل". وحتى عام 1968 وتحت رئاسة عبد السلام عارف ثم شقيقه عبد الرحمن، اتسمت العلاقة الكوردية العراقية بانعدام الاستقرار واستحكام الخلاف على جانبي جبل حمرين". ومنذ عام 1968 وحتى 2003 بدلت عودة البعث نهائيا طبيعة المسالة الكوردية وثقلها".
 
استقلال اقليم كوردستان
 
لقد قرر صدام حسين، بعد اتفاقية الجزائر مع الشاه لسحب دعم ايران للثورة الكوردية مقابل تنازلات في الارض والمياه العراقية، ومن ثم الحرب العراقية الايرانية عام 1980، وفشل كل المفاوضات مع القيادة الكوردية "استخدام وسائل غير تقليدية في إطار تصميمه على الانهاء التام لحركة القومية الكوردية في العراق. فقد اضاف الى استخدام اسلحة الدمار الشامل عملية استخدام الغاز السام في 16 آذار 1988 ضد مدينة حلبجة. مما ادى، تنفيذ حملة الانفال، الى ابادة 182 الف كوردي مدني".
 
في الخامس من آذار اشعلت بلدة رانية الكوردية انتفاضتها ضد حكم صدام حسين وسرعان ما امتدت شرارة الانتفاضة جميع مدن كوردستان. وحفاظا على حياة الشعب الكوردي من ردة فعل وبطش نظام صدام حسين بالكورد منعت الامم المتحدة في العاشر من نيسان 1991، الطائرات العراقية من التحليق على المناطق الكوردية ليعلن استقلال اقليم كوردستان بحماية دولية.
 
العراق الاميركي
 
في الجزء الثالث والاخير من الكتاب"العراق الجديد (الديمقراطي): الحلم المستحيل (2003 – 2021)، يستعرض الكتاب وضع (العراق الجديد الاميركي)، واسباب الاحتلال الاميركي للعراق، ومحنة حكم النخبة المحبطة، متناولا باسهاب (الشيعة في السلطة، السلطة الشيعية في العراقي) وفشل تجربتها. وتشكيل الميلشيات الشيعية، والتدخل الايراني في شؤون الحكم.
 
ويفرد الكاتب فصلا كاملا عن حركة الاحتجاج.. حلم جيل كامل، متناولا باسهاب حركة تشرين 2019، باعتبارها: "حركة الاحتجاج المضادة للسلطة القائمة، بشكل غير مسبوق، سواء من حيث طبيعة هذا الاحتجاج أو مداه". وردة فعل "النخب الحاكمة، الشيعية في غالبيتها، والتي انتابتها حينئذ حالة من الهلع المعمم، هو اللجوء إلى القمع على نحو غير مسبوق في شدته".
 
من الجدير بالذكر هنا بان استعرضنا لكتاب "العراق قرن من الافلاس من عام 1921 إلى اليوم"، هو التحريض على قراءته، فعرض اي كتاب لا يمكن ان يكون بديلا عن التعمق فيه لا سيما وان هذا الكتاب يعد بحثا في التاريخ العراقي الحديث، وهو مرجع لا غنى عنه ومصدر مهم لمن يريد معرفة الحقائق بارقامها واحصائياتها وحوادثها، حيث بذل فيه الباحث عادل بكوان جهدا مباركا ونبيلا وعميقا من اجل المصداقية وتوثيقها. 
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب