معد فياض
في مساء شتائي بارد من مساءات شهر شباط عام 2006، كنت اقطع المسافة مشياً بين محطة واترلو العريقة على الضفة الجنوبية لنهر التيمز، باتجاه واحدة من أشهر مسارح لندن القديمة (The Old Vic)، لمشاهدة مسرحية (حكاية جندي)، هناك كانت صورة صديقي الممثل المسرحي العراقي فلاح ابراهيم، الذي جسد دور الرّاوي باللغة العربية، تتصدر الواجهة الى جانب صورة الممثل العراقي علاء حسين، لعب دور جندي عراقي، وصورممثلات وممثلين انجليز معروفين مثل: جولين كلوفر بدور الراوي باللغة الانجليزية، كيرن مكنمان بدور الجندي الانجليزي، ومارتن ماركوز بدور الشيطان.
شعرت بالغبطة وانا اتوجه الى مقعدي في الصالة العتيقة المزخرفة بعناية، خاصة واني كنت قد حصلت بصعوبة على تذكرة المسرح، الغالية الثمن، لمشاهدة هذه المسرحية التي استمر عرضها 10 ايام.
مسرحية (حكاية جندي) كتبها الفرنسي راموز عام 1918 خلال الحرب العالمية الاولى، وألف موسيقاها اشهر مؤلفي القرن العشرين الروسي ايكور سترافنسكي، وكان العرض تحت رعاية الممثل الاميركي الشهير كيفين سبيسي، وقصتها عن جندي عاد منهكا من الحرب، وأدى فيها فلاح ابراهيم دور الراوية الذي يمثل صوته الخير والامل، وصوت الحكمة .
قدمت المسرحية اول مرة في نفس الفترة، ولكن المخرج البريطاني اندرو استيكل اعاد صياغتها صياغة من جديد واسقطه على الوضع الراهن متخذا من الحرب التي شُنتها قوات التحالف الدولي عام 2003 على العراق، بمشاركة القوات البريطانية، واراد ان يشاهد الجمهور البريطاني والعربي اهوال هذه الحرب ، لذا سافر الى العراق عدة مرات وزار دائرة المخابرات في مدينة السليمانية (الدائرة الحمراء) واستمع لشرح عن اساليب التعذيب في زمن صدام ، والتقى جنودا وضباط في العراق، كما فعل في بلدان أخرى. وقام بترجمة العمل الى العربية الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد. المسرحية عرضت باللغتين العربية والأنجليزية في حوار متداخل متناسق بين جميع الشخصيات، حيث يحتوي كل مشهد على حوار بكلا اللغتين، ويصل الى درجة من البراعة والتوالف والسلاسة لايحتاج فيها المتفرج ان يعرف اللغتين كي يفهم العمل. الحوار احتوى على لغة شعرية عالية بالانكليزية والعربية، وكانت هناك تاثيرات شعرية واضحة جسدها الشاعر عبد الكريم كاصد في النص العربي. وكان يفترض عرض المسرحية ببغداد بعد ان تم عرضها في مدن اوربية، حسب الاتفاق الذي كشف عنه المخرج مع وزارة الثقافة العراقية، بعد عرضها في اميركا وكندا وبعض الدول الاوربية، لكن هذا لم يحدث، اعني عرضها في العراق.
كان هناك حوار ساخن، غير الحوار اللغوي، حوار ادائي مسرحي بين فلاح ابراهيم وبقية فريق التمثيل الانجليزي، حوار تصاعد ابداعا وجاء ذلك لصالح المشاهدين الذين اعطوا رايهم بصراحة ووضح خلال عاصفة التصفيق التي شارك بها فريق التمثيل لفلاح ابراهيم في نهاية العرض.
تركنا صالة المسرح، فلاح ابراهيم وانا باتجاه مقهى قريب حيث اخذنا الحديث عن الاداء التمثيلي، وان التمثيل حرفة صعبة للغاية، وليس من السهل ان تكون ممثلا ما دمت لا تغني هذه الموهبة والحرفة بالتمرين والمتابعة، قال لي: "قابلت مخرج المسرحية، اندرو استيكل، في بغداد، وقد اختارني بعد ان شاهد احد اعمالي واجتيازي لاختبار سريع"، موضحا: "انا لم اكن اتبارى مع الممثلين الانجليز فوق خشبة المسرح بل كنت اتبارى مع نفسي، اردت ان ابرهن لنفسي قدرتي الادائية، وفي ذات الوقت ارصد مستوى التنافس الابداعي مع ممثلين لهم خبرات عميقة وطويلة في التمثيل السينمائي والمسرحي، فانا لا اقارن نفسي معهم ففي هذه المقارنة اجحاف لي كون تجاربنا محدودة، ففرصنا محاصرة في المسرح العراقي، نتدرب لاشهر عديدة ونعرض ليومين في ظروف حياتية ومالية صعبة، ليست هناك سينما ولا عروض مسرحية كثيرة في العراق، ثم نتنافس مع من؟". واشار الى ان:"الممثل كيرن مكنمان الذي ادى دور الجندي الانجليزي، الذي مثلت معه اليوم له رصيد عشرة افلام في هوليود ولندن".
بعد سنوات طويلة من هذا اللقاء اللندني، يقرر الفنان فلاح ابراهيم، وفي عام 2017 اعتزال العمل الفني والسفر للاستقرار في تركيا، حيث صرح وقتذاك قائلا: "أنا أعلنت اعتزالي عن المسرح احتجاجاً على وضعنا كفنانين، وعلى تعامل الدولة مع الأعمال المسرحية التي صرف عليها الممثلون من مالهم الخاص ولحد هذه اللحظة لم يحصلوا على أي أجر! ومنذ العام 2017، وفي يوم المسرح العالمي أعلنت احتجاجي على تجويع وإذلال الفنان العراقي وعلى محاولة تهميش المسرح، أما موضوع الغربة فإن كثيراً من الأمور جعلتني أتخذ هذا القرار، أولها الوضع الصحي، والوضع العام العقيم الحلول، فضلاً عن الوضع الفني الذي أصبح متعباً جداً ولا يمتلك أي أفق، بالذات أتكلم عن المسرح، إذ أني أعد أي فنان عراقي يشتغل على المسرح بطلاً وعاشقاً للمسرح، لذا أتمنى على السياسي العراقي أن يعي أهمية الثقافة والفن".
الفنان فلاح ابراهيم، المولود في 15 سبتمبر 1962 كان قد لعب بطولة ومثل واخرج عشرات المسرحيات والمسلسلات التلفزيونية، حيث بدأت مسيرته في الإخراج المسرحي في كلية الفنون الجميلة في بغداد، وانشغل بالتمثيل ولم يبدأ تجربة الإخراج إلا سنة 2000. له اكثر من 50 عملا مسرحيا كممثل وعشر اعمال مسرحية كمخرج وعشرين كسينوغرافي ومن اعماله ( الغوريلا) و ( تقاسيم على نغم النوى) و( المومياء) و ( قلب الحدث) وشارك في المسلسل التلفزيوني (بيت الطين ) في أجزائه الأربعة ،وقد حصل على عدد من الجوائز، كانت أولها جائزة أفضل ممثل واعد عام 1988 عن مسرحية (الغوريلا) وجائزة أفضل مخرج عام 2000 عن مسرحية (بياض الظل) وجائزة الدولة للمحترفين عام 2002 عن مسرحية (الهجرة إلى الحب).
ولعب واحدا من افضل ادواره، حسب شهادات النقاد، شخصية النبي موسى في مسرحية"يا رب" مع الفنانة المبدعة سهى سالم، من تاليف علي عبد النبي الزيدي واخراج الشاب مصطفى الركابي، والتي عرضت على المسرح الوطني ببغداد في اغسطس عام 2016 ، وكان عرضا مسرحيا صادما هو الاول من نوعه، حيث هددت ام عراقية ( سها سالم) باسم امهات الشهداء الله جل جلاله، بالاضراب عن الصلاة والصيام ان لم يوقف القتل خلال 24 ساعة، وتبلغ رسالتها هذه من خلال مقابلتها للنبي موسى( فلاح ابراهيم).
فلاح ابراهيم، الانسان الذي لم يضمر في حياته سوى المحبة للاخرين وعشقه للمسرح، الانسان الطيب والفنان المبدع، الممثل الذي اسس لنفسه اسلوبية متميزة في الاداء كما في الاخراج المسرحي، وصاحب المواقف الوطنية المبدأية، فاجئنا اليوم برحيله المفاجئ وبلا مقدمات او رسائل وداع.
شبكة رووداو اتصلت اليوم الاحد (25 حزيران 2023)، بشقيقه الفنان المسرحي يحيى ابراهيم لتقديم التعازي لله ولعائلته وللوسط الفني العراقي، حيث اوضح حول اسباب وفاته قائلا: "كان فلاح قد اجرى قبل عام في الهند عملية جراحية في القلب لوجود مشاكل صحية صعبة، وتعافى، لكن مشاكل في معدته فاجئته اخيرا، واجرى فحوصاً طبية وعلاجاً ببغداد ولم يتحسن مما اضطرنا الى تسفيره مع اشقائي وابنائه الى تركيا لاجراء عملية مستعجلة"، مشيرا الى انهم" ابلغونا امس بنجاح العملية ثم انتكست حالته الصحية بسبب ضعف قلبه، اذ مات مرتين، تم اسعافه في الاولى، ولم تنجح للاسف إجراءات الانعاش في الثانية فغادر الحياة".
ونبه يحيى ابراهيم الى ان "جثمان الفنان فلاح ابراهيم سيصل غدا من تركيا ليجري تشييعه ببغداد الى مثواه الاخير".
وكان رئيس مجلس الوزراء محمد السوداني قد نعى الفنان فلاح إبراهيم، قائلا: "ان رحيل فلاح ابراهيم يعني خسارة الساحة الفنية والثقافية العراقية لقامة مهمة معطاءة، وفناناً مثابراً حمل هموم الفن ورسالته الرصينة الخلاقة على مدى سنوات عمره".
بدورها، نعت نقابة الفنانين العراقيين، في بيان رحيل الفنان فلاح إبراهيم، جاء فيه: "ببالغ الحزن والأسى تنعى نقابة الفنانين العراقيين رحيل الفنان فلاح إبراهيم، والذي وافته المنية هذا اليوم، سائلين المولى أن يتغمده بواسع رحمته، وأن يلهم ذويه ومحبيه وزملائه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون". كما انشغلت وسائل التواصل الاجتماعي، فيسبوك وتويتر، بنشر تعازي اصدقائه وجمهوره داخل العراق وخارجه.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً