رووداو ديجيتال
لا نستطيع ان نصف علاء بشير بـ"الفنان" وحسب، فهو اضافة الى انه بروفيسور في الجراحة المجهرية والتقويمية، ومشهور على مستوى العالم، ومعروف ايضا كفنان تشكيلي، رسام ونحات، واعماله تنتشر في غالبية الدول العربية والاوربية والولايات المتحدة، الا انه، وهذا مهم للغاية، فيلسوف في الفكر الانساني.
علاء بشير، الذي له عشرات المعارض الشخصية في العراق او الدول العربية او في أوربا والولايات المتحدة..اعماله غالبا ما تثير الجدل والسجالات وينصرف الكثير من نقاد الفن والمنظرين التشكيليين الى تحليلها فكريا، ذلك ان معارضه لا تتشابه فيما بينها من ناحية الاسلوب او المواضيع، فهو لا يرسم لوحات تجميلية، بل يؤسس لخطابات فكرية فلسفية، اي انه يجسد افكاره عن الوجود الانساني على سطح لوحاته، وايضا في اعماله النحتية التي اشتغل عليها من طين دجلة والفرات، وكانت هذه الاعمال موضوعا في معرضه الاخير الذي اقامه في العاصمة البريطانية لندن حيث شغل النقاد والكتاب والجمهورين الغربي والعربي.
عرض الفنان علاء في معرضه اللندني 51 عمل نحتي، بينها 32 من اعماله القديمة التي نفذت وعرضت ببغداد وكان موضوعها قصف ملجأ الجادرية، اضافة الى 25 تخطيطا لها علاقة بفكرة المعرض.
عن فكرة معرضه" أفكار من طين النهرين"، قال الفنان علاء بشير لرووداو:" خلال الحروب التي مر بها العراق(1980 – 1991) كنت مديرا لمستشفى الواسطي في بغداد.. وقادتني الحوادث ان اشاهد وامشي بين المئات من الجثث الممزقة المغطاة بالتراب . كنت احدق في عيونهم المفتوحة وكانها تنظر الى البعيد البعيد . ذكرتني تلك المشاهد بالمنحوتات السومرية ، واساطير الحياة والموت . ومعجزة الخلق من تراب . والهمتني ان انحت من طين دجلة والفرات 135 تمثالا.
عرضتها في مركز الفنون في بغداد عام 1992 ، تحت عنوان ( افكار من تراب)". مضيفا:" هذا المعرض الذي اقيمه الان في لندن ، يضم بعض المنحوتات من معرض (افكار من تراب )، مع منحوتات حديثة إضافية ترتدي وجوهها أقنعة ملونة".
ولكن: لماذا هذا المعرض اليوم؟.. يجيب قائلا: "هذا السؤال صعب ..المشكلة انك لا تستطيع ان تنسلخ عن تاريخك الشخصي. ويبدو اننا كعراقيين، قد فشلنا
في الاستفادة من التجارب السابقة في حياتنا".
وأوضح: "أتذكر جيداً عندما كنت طفلاً وبالضبط عام 1944، مشاهد الجنود الانكليز والهنود خلال احتلالهم للبصرة في الحرب العالمية الثانية، وبعيدا عن التفاصيل، اعادت مشاهد وجود القوات الاميركية خلال احتلالها العراق، بغداد خاصة في عام 2003 مشاهد طفولتي في البصرة. الحدث، الاحتلال، يتكرر، ذات الوجوه والوان الملابس، الخاكية، ذات الفعل يتكرر بعد اكثر من 80 سنة. الناس، العراقيون، لم يتغيروا ولم يستفيدوا من تجارب الماضي وهم للاسف على استعداد لتكرار التجربة".
واستطرد بقوله:"موضوع احتلال بغداد، وهي مدينتي، مؤثر بالنسبة لي وايضا بالنسبة لغيري، لكن كيف هي بغداد اليوم، وما هو تأثير الاحتلال الاميركي عليها، وما هي ردود الفعل؟ هذه الاسئلة واسئلة اخرى تدور في ذهني..اجد العراقيين يذهبون الى بغداد اليوم ويعودون وعندما اسالهم عن الاوضاع يتحدثون بسعادة عن انتشار المولات والمطاعم ويشيدون بالطعام الذي تقدمه هذه المطاعم، واجد هذا الامر غريب جدا..هل الحضارة هي مولات ومطاعم، وماذا عن الحضارة التي تهدمت والنفوس التي خربها الاحتلال.. هل نختصر اهتماماتنا بمظاهر المطاعم والطعام ؟ وهذا يؤكد لي بان العراقيين لم يستفيدوا من التجارب التي مروا بها".
يقول بايضاح أكثر:"انا كعراقي منذ طفولتي حتى اليوم بلدي محتل، وتركت العراق وبلدي محتل، والسبب هو نحن.. لقد فشلنا في استيعاب تجاربنا، حتى اننا لم نتعلم من الطيور..خلال هجرات الطيور نراهاا تحلق في الفضاء على شكل سهم، او مثلث متساوي الساقين في رأسه طائر يقود اكثر من 400 طائر، وهذا القائد دليلهم لقطع الاف الاميال دون ان يخطأ الاتجاهات او يخونهم او يخيب املهم، واتسائل: ما هو القانون الذي اختاروا بموجبه هذا القائد؟ كيف تم انتخاب او اختيار هذا الطائر وكيف اتفقوا فيما بينهم عليه، فهم اختاروا القائد المناسب، لكننا كبشر خفقنا وفشلنا وما زلنا نفشل في اختيار القائد المناسب الذي يقودنا الى بر الامان ولا يفشل او يغدر بنا".
التاريخ بالنسبة للفنان والطبيب علاء بشير مجموعة اكاذيب، يقول:" لا نستطيع الاعتماد على التاريخ، ذلك ان تاريخنا، حتى المكتوب، مزيف. مثلا في صبيحة انقلاب 14 تموز 1958، اتذكر اني ذهبت مع خالي الى قصر الرحاب، حيث تم قتل العائلة المالكة والتمثيل بجثة الامير عبد الاله، ومن ثم بجثة نوري السعيد ونجله صباح، وشاهدت بعيني عمليات نهب اثاث القصر، وهذه العملية تكررت مرات عديدة حتى في 2003..قبل يوم من انقلاب تموز كان العراقيون يبدون متسامحين وطيبين، ثم فجأة انقلبوا الى قتلة ولصوص، ووحوش، نساء ورجال، واعني قتلة العائلة المالكة وسراق القصر الملكي".
ويخلص الفنان علاء بشير الى اننا:"اذا لم نراجع تاريخنا بصورة امينة ودقيقة ستكون مهمة التغيير صعبة..هناك اخطاء كثيرة في تاريخنا المكتوب ..الناس اليوم لا تهتم بالمسائل الثقافة مثل اهتمامهم بالمطاعم والولائم والجوائز..عندنا مشكلة اخلاقية وفكرية واجتماعية. عندما اتحدث مع شخص انكليزي اعرف باني اتحدث مع شخص واحد هو ذاته، لكن في حديثي مع عراقي اشعر اني اتكلم مع ثلاث او خمس شخصيات متغيرة ومتناقضة ولا ادري متى تظهر الشخصية الطيبة او العدوانية".
أفكار من طين
في غالبية المعارض التشكيلية، الرسم والنحت، لفنانين آخرين، التي زرتها في حياتي اكتشف ان هناك أفكار تعبر عنها تخطيطات او الوان، او من كتل حجرية او خشبية مصاغة كمنحوتات، هذا يحدث في غالبية المنجزات الفنية، الموسيقية او المسرحية او السينمائية او الشعرية، افكار من موسيقى وكلمات واحداث درامية، لكن افكار الفنان علاء بشير جاءت في معرضه الراهن من طين دجلة والفرات، وهو اصر على ان يضع هذه المعلومات على منحوتاته، مثلا"من طين نهر دجلة" و" من طين نهر الفرات".
وجوه وتكوينات اشتغلها الفنان من الطين مباشرة وفخرها بحرارة فرن الخزف، وكأنه يعيد البشر الى حالتهم الاولى او الاخيرة في رحلة الحياة والموت، يوضح: "هذه هي رحلة الانسان من رحم امه الى رحم الارض". فهو كما في الرسم لا يخلق تكوينات او شخوص جميلة، بمعنى التزيين، بل يرسمها كافكار وليس كبورتريت، يجسد افكار الشخوص وهي بالتأكيد افكاره التي يريد ايصالها للمتلقي من خلال شخوصه، وهذا يحدث في الرواية او السينما او الموسيقى والشعر ايضا.
ولأن علاء بشير طبيب، ورحلته الحياتية بدأت متزامنة في الفن التشكيلي والطب واختار اصعب اختصاص طبي، الجراحة المجهرية والتقويمية، فان ما لم يحققه في الطب، واعني اعادة تكوين الانسان، فهو يفعلها هنا في النحت، حتى اننا نكاد نسمع صوت الانسان المضغوط بقوة الظلم..هو هنا يوجه الاسئلة لذاته ولنا، يجعلنا الشهود والقضاة والمذنبين في آن واحد دون ان يطلب منا ان ندلي بافادتنا لانه يعرف ان ارادتنا مصادرة مسبقا كوننا بلا تاريخ، وبلا تجارب، حتى وان كانت لنا تجارب فنحن لم نستفد منها.. شخوصه في لوحاته ومنحوتاته ليست مشوهة كما يتوهم البعض بل هي حقيقية جدا.. هذا هو واقع الحدث والشخص.. بعض الاعمال النحتية جاءت ملونة وغير دقيقة في قياساتها الاكاديمية، وقد تعمد ذلك، يقول:" اللون هنا هو قناع يتقنع به المنافق والمزيف والكاذب، وشخوص من هذا النوع لا يكونوا طبيعيين اي ان الانسان عندما تكون افكاره او حياته او ممارساته مزيفة لا يبدو وجهه طبيعيا كما بقية البشر".
الفنان علاء بشير، يبحث هنا عن شهود حقيقيين، شهود غير مزيفين ولم ولن ينكثوا شهادتهم على الاطلاق فلاذ بطين نهري دجلة والفرات بعد ان عجز عن ايجاد شهود يتلون افادتهم بلا خوف او تزوير. علاوة على ذلك ان حضارة وادي الرافدين بدءا بسومر ومرورا باوروك ووصولا الى بابل قامت وتاسست من طين دجلة والفرات..الزقورات المقدسة، الرقو الطينية، المعابد، البيوت، شارح الموكب، كلها بنيت من طين دجلة والفرات..حضارات باكملها كتبت اشعارها واساطيرها ونحتت معجزاتها الفنية، التي تتجسد في تماثيل الالهة والملوك من طين دجلة والفرات .
يقول: "هذا المعرض قراءة للتجارب السابقة وتعمدت ان اشتغل اعمالي من طين نهري دجلة والفرات، وقد حددت بعض الاعمال التي اشتغلتها من طين دجلة واخرى من طين الفرات، طين نهر دجلة احمر وطين نهر الفرات ابيض لاحتوائه على بعض المعادن، والنهر وطينه خير شاهد حقيقي على تاريخ العراق، على شخوص واحداث وقعت منذ الاف السنين".
يستذكر الفنان علاء بشير حادثة مهمة ومثيرة للنقاش في ذات الوقت ليؤكد صحة اختياره لطين نهر دجلة كشاهد غير مشكوك به، يقول:" في التسعينيات، عندما كانت لجان التفتيش عن اسلحة الدمار الشامل تاتي للعراق التقيت بطبيب مشارك في احدى اللجان كخبير طبي ، اخبرني وقتذاك بان هناك معلومات عن ان النظام (صدام حسين) قد خبأ اسلحة الدمار الشامل في قاع نهر دجلة.
وأضاف: عندما نزل الغواصون الى قاع نهر دجلة اكتشفوا ان منطقة النهر من شمال بغداد وحتى جنوبها توجد فيها هياكل عظمية وجثث بشرية كانت قد القيت في النهر، وبالتأكيد هذه جثث ضحايا السياسة والغدر والاغتيالات التي حدثت عبر سنوات طويلة، وخلص الى ان مياه نهر دجلة غير صالحة للاستخدام البشري".
يؤكد: "ان نهر دجلة وطينه هنا شاهد على الجثث المظلومة والظالمة ايضا، القاتل والمقتول، لهذا تعمدت استخدام طين نهري دجلة والفرات".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً