معد فياض
تمر الذكرى الـ 154 لاصدار اول صحيفة في العراق (زوراء)، حيث اعتبر هذا التاريخ عيدا للصحافة العراقية. وعلى مدى التاريخ الحديث لم يكتب اي من الصحفيين العراقيين عن تجربته المهنية بصدق وعن قرب حول معاناة اهل المهنة في بلد عاش الكثير من الانقلابات العسكرية والمشاكل السياسية وتغيير الانظمة الحاكمة. قد يبدو العمل الصحفي لمن هم خارج هذا الحقل ممتعا ومغريا وان على الصحفيين ان يرددوا ما قاله الشاعر المصري صلاح جاهين "الدنيا ربيع والجو بديع.. قفل اي على كل المواضيع". لكن الواقع في العراق غير ذلك تماما خاصة منذ عام 1963 وحتى اليوم.
الكاتب والصحفي العراقي المعروف، سهيل سامي نادر، المعلم والخبير والعارف بامور مهنة الصحافة، خرج عن صمته في كتابه" سوء حظ.. ذكريات صحفي في زمن الانقلابات"، الصادر عن دار المدى للاعلام والثقافة والفنون ببغداد، يقع في 270 صفحة من الحجم المتوسط، ليتحدث بلغة سلسة واسلوب هو اقرب للرواية منه الى السيرة المهنية او الذاتية، وبمنتهى الصراحة، بل وليفضح معاناته مع مهنة الصحافة ومخاطرها وتقلباتها وما تعرض له من اعتقالات وتهديدات واختطاف ومحاولات اغتيال وتهميش، وهي حقائق موثوقة تمثل تاريخ الصحافة والصحفيين العراقييين، وضمن هذا البوح والسرد يستعرض التاريخ الراهن للعراق في اول كتاب من نوعه.
يقدم الكاتب والصحفي سهيل سامي نادر كتابه" سوء حظ" قائلا:"لعلي سيء الحظ، لكن اقترانا بالتاريخ السياسي العراقي، وبالجزء الخاص من تاريخ الصحافة بعد انقلاب 8 شباط (1963) على وجه التحديد، يصح القول انني مجرد شريك بسوء حظ قديم ضمَ اجيالا من العراقيين فقدوا الامان وتحولت حياتهم الى جحيم". ويستهل سوء حظه منذ اليوم الاول الذي اراد ان يدشن حياته الصحفية:" في اليوم الذي كنت فيه على موعد مع شاكر علي التكريتي صاحب جريدة الشعب من اجل العمل في جريدته كمصحح ومنفذ، جرى تأميم الصحافة واغلقت الصحافة الاهلية ابوابها لكي تحل محلها مؤسسة حكومية سُميت بـ (المؤسسة العامة للصحافة والنشر)".
مستطردا بقوله: "من سوء حظي اني عملت في صحافة حكومية باشرت بناء نفسها توا، وغيرت اول ما غيرت مواقع العمل التقليدية التي كانت غالبيتها تقع بين درابين وأزقة بغداد التاريخية، وتشغل ابنية متهرئة، كما غيرت سياقات انتاج المطبوع، وكنت انا نفسي أدشن وظائف لم تكن موجودة سابقا".
وفيما اذا كان كتاب "سوء حظ" يندرج تحت وصف سيرة ذاتية ام مذكرات شخصية، قال الكاتب سهيل سامي نادر لشبكة رووداو الاعلامية اليوم الاثنين، 19 حزيران 2023:" انها(مذكرات مهنية)، لقد كتبتها وانا اتوخى ان أكشف مساوئ النظام السابق والحالي". لكن صحفيا وكاتبا مثل سهيل سامي نادر كان يمضي جل وقته في عمله المهني بحيث تتداخل حياته المهنية مع الشخصية، والاولى تنتصر على الثانية لتاتي هذه المذكرات تسجيلا لكلا الحياتين، الصحفية والشخصية. يوضح قائلا:"كانت محنتي في هذا الكتاب هي ان لا اتوسع بأثنين: حياتي الشخصية والسياسية. واعترف أني عانيت من هذا الالتزام،. فعلى الرغم من أنني لم أكن صحفيا إخباريا، ولم يحصل أن اتصل عملي باي مسؤول سياسي او حكومي، فان الصحافة باتت قدري- قدري المزعوج منه ومن تبعاته بيد انني بصرف النظر عن التبعات، لم انقطع في كتاباتي الثقافية والسياسية عن صياغة آراء واضحة وجريئة".مشيرا الى انه:"في العراق يحتاج الصحفي المُجدَ والمثقف الى ان يستدخل شيئا من اخلاق رواقية عن التراجيديا ولا تبني الآمال ولا اليأس بل تثابر بتقليل الالم وعدم الابتلاء بمرض الإنجاز والدخول بسباقات متهورة"، مستدركاً: "اذا ما كان المرء صحيح القلب والعقل فانه ما ان ينجو حتى يكون عليه ان ينسى. وبافتراض أنه لا ينسى، وطموحات الشباب المغدورة تلدغه حتى بوصوله الى عمر الشيخوخة، فسيكون سجين آلامه المحبطة إذا لم يقاومها بالفكاهة".
لقد عمل الكاتب والصحفي سهيل سامي نادر، الذي درس اكاديميا علم الاجتماع، منذ بداياته متدرجا في كل مراحل اخراج الصحيفة، بدءا بصف الحروف بواسطة مادة الرصاص و(الكلائش)، قبل عصر (اللاينوتايب)، يقول: "كنت ازور قريبي في مكان العمل ودفعني الفضول الى ان اتعلم منه كيف اجمع الحروف واصنع صفحة من الرصاص أقرأها بالمقلوب". واجزم بحسب مذكراته المهنية فان نادر لم يترك تفصيلا في العمل الصحفي الا وعمل به: صف الحروف، متابعة الصفحات في المطبعة، ايصال الكلائش، التصميم، والاهم من كل هذا صياغة الاخبار والقصص الصحفية، وتخصصه بالنقد الفني، التشكيلي والمعماري والموسيقي والمسرحي، وله مئات المقالات المتخصصة في هذا المجال اضافة الى عن الفنان التشكيلي شاكر حسن آل سعيد وفائق حسن و(الخشن والناعم)، ومؤلفات فكرية اخرى، كما انشغل في كتابة المقالات السياسية.
لقد عمل سهيل سامي نادر في جميع الصحف والمجلات العراقية تقريبا، بما فيها صحافة الاطفال(مجلتي) و(المزمار). ما يرشح بالفعل كتابه هذا مصدرا هاما من مصادر دراسة تاريخ الصحافة العراقية المعاصرة، وما كتبه عن الصحفيين بمثابة شهادات حقيقية عن مهنيتهم، حيث تدربت على يده اجيال من الصحفيين، بما فيهم كاتب هذا الموضوع. واكاد أجزم ان ما من مقالة او قصة صحفية نشرت في الصحف، الثورة والجمهورية والمدى التي اسسها مع الكاتب فخري كريم، ومجلات "الاذاعة والتلفزيون" و"فنون" و"السينما والمسرح" و"ألف باء" و"آفاق عربية" و"فنون عربية" و2000"كانتا تصدران في لندن، الا ومر عليها قلمه لاعادة صياغتها او تصحيحها اسلوبيا ولغويا. يتحدث عن تجربته هذه قائلا:" كانت غالبية المواد تصب عندي، وكنت آخذها الى بيتي وأسهر معها حتى الصباح في إعادة تحرير، وتوحيد بعض السمات الشخصية لها"، منبها الى انه "في عهود الانقلابات والتوترات السياسية شهدت الصحافة اضطرابا في صميم عملها المهني: انعدام التوازن، عدم الثبات، انعدام الملامح الشخصية العامة، طغيان السياسة. وإذا ما اقتربنا جيدا في فحص حالة العاملين سنجد غالبيتهم من هواة الادب، لم يحصلوا على تدريب صحفي او اعلامي مسبق"، مشيرا الى الوضع الاقتصادي للصحفيين:"كان الجميع يتسلم رواتب قليلة، وكانت المكافآت حتى في عهود الازدهار المالي مذلة". مجيبا عن سؤالنا حول العصر الذهبي للصحافة العراقية، بقوله: "لا عصور ذهبية في العراق المعاصر".
يعتز الكاتب سهيل سامي نادر بوصفه "صحفيا" بالرغم من كل ما عاناه جراء مصداقيته ومهنيته وجرأته في قول الحقيقة والتي اخذت اكثر من نصف عمره. وهذا ما دفعه لتاليف "سوء حظ"، الذي انجزه في الدنمارك التي لجأ اليها بعد ان تعرض وعائلته لسلسلة من التهديدات، وبعد اختطافه على ايدي ارهابيين ببغداد وماولة اغتيال، موضحا:"عندما نشرت في الفيسبوك عددا قليلا من فصول سيرتي المهنية عام 2009، بواقع 10 الاف كلمة، فوجئت باستجابة الكثييرين لها والعدد الكبير من التعليقات، وتاليف الكتاب كله لم يستغرق عندي الكثير من الوقت، ربما 7 اشهر"، مشيرا الى "اني كنت اعرف ما اريد وما جرى لي تماما"، مضيفا: "وانا اقول الحقيقة هنا، اني كتبتها وكأني اتحدث مع صديقي الراحل رياض قاسم، وكأني اواصل ما انقطع.. كتبت تلك الفصول وأنا استمع تلحيناته ومبالغاته وهو يعيد حكاياتي نفسها بطربقته الخاصة، مع كركراته التي افتقدها".
المقربون من نادر يعرفون انه يعاني من مشكلة تتعلق بذاكرته مع الاسماء، لكنه في كتابه"سوء حظ" يذكر العديد من اسماء اصدقائه وزملائه، خاصة الكاتب والصحفي عمران القيسي والكاتب والصحفي محمد كامل عارف، وصديقه المقرب الكاتب والصحفي(الراحل) رياض قاسم، والكاتب فخري كريم وغالبية من الزملاء الذين عملوا معه، كاشفا "عانيت في هذا الكتاب من تذكر الاسماء. هناك الكثير من الاسماء نسيتها في الحقيقة. لكن الاسماء التي عرفتها وكانت لي معها مواقف واصلت العمل في حياتي . على اية حال استعنت ببعض الاصدقاء لتذكر بعض الاسماء ثم تبين لي ان ذاكرتي استيقضت اثناء الكتابة".
ويخلص الكاتب والصحفي الى ان "الكتابة تعيننا على الزمن. سوء حظ العراق، وانا سوء حظي تفرع منه، لا تعدله، ولا تغيره، الكتب، لا كتابي ولا أفضل كتاب في التاريخ. نضال الناس هو من يقرر ازالة سوء الحظ واثبات العدالة"، قائلاً وبتواضع: "لقد تعلمت انا الاخر ممن علمتهم . لا يعول على معلم لا يتعلم".
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً