مهرجان بغداد الدولي للمسرح يفاجئ جمهوره بعرض "جدار" سنان العزاوي

14-12-2024
معد فياض
الكلمات الدالة المسرح
A+ A-
رووداو ديجيتال

أثار العرض المسرحي العراقي "الجدار" تأليف حيدر جمعة واخراج سنان العزاوي وسينوغرافيا علي السوداني، الذي دشن مهرجان مسرح بغداد الدولي للمسرح، عروضه بها، الكثير من الجدل والسجالات والتي ستستمر الى وقت ليس بالقصير، بسبب ما طرحته من افكار وقصص من الواقع، وبجرأة لم يعرفها المسرح العراقي.
 
يأخذ النص المسرحي الغني بمفرداته قصص 11 امرأة هن ضحايا المجتمع الذكوري القاسي بحق الزوجة والبنت والحبيبة، لكل امرأة قصتها التي يضعها العزاوي تحت مجهر التحليل الجمالي ويسلط عليها عدسات ابداعية مكبرة ليجسد وبصورة عريضة وعميقة ايضا فواجع معاناتهن وسط ضجيج الحياة التي لا تلتفت لصراخهن بوجه العالم.
 
جدار يفصل بين ما هو معلن وما هو مخفي، الجدار مؤسس في الداخل اولاً، الداخل البشع والمتعب، والخارج المبرقع بالزيف والاكاذيب والمكياج والازياء التي تغطي صخب انفعالات مكتومة وشهادات حقيقية تجرحها المظاهر.
 
عشر ممثلات مثل لبوات جريحات يتحركن في فضاء مغلف ومغلق بالجدران التي تخفي وراءها جرائم تتراكم وتتناسل تفضحها الشخوص كلما تمادت الاحداث في قسوتها، هن: الاء نجم، لبوة عرب، إسراء رفعت، رضاب احمد، زمن الربيعي، رهام البياتي، نعمت عبد الحسين، عراق امين، شيرين سيرواني، وعبير جبار ، وممثل يؤدي دور الممسوخ، يحيى ابراهيم، هو بمثابة المروض للبوات.
 
بالاسئلة يبدأ العرض، الاسئلة التي تتعلق بفلسفة الحياة، وتبقى هذه الاسئلة تتردد خلال الاحداث دون الاجابة عنها بوضوح: هل نحن بشر ام حيوانات. هل نحن ملائكة ام شياطين. هل نحن مؤمنين ام قوادين؟". أسئلة تقترب كثيراً من سؤال الشخصية الشكسبيرية المثيرة للجدل، هاملت، To be or not to be، "نكون او لا نكون"، فالوجود هنا محور صراع الشخصيات مع ذواتها اولا ومع المحيط المجتمعي ثانياً، مع الحدث ذاته ومع المؤثرات لتتشابك الخيوط بالتالي وتنسج شبكة من التناقضات التي تحكم بها المخرج، سنان العزاوي تماماً مثل الدمى المربوطة بخيوط، قبل ان تفلت منه فيتركها لمصائرها.
 
الغياب والحضور، الغياب اولا قبل الحضور، فكرة متناقضة تماما، يجب ان يكون الحضور اولا ثم يحدث الغياب، لكننا كمتلقين وعندما دخلنا قاعة مسرح الرشيد، حيث عرض العمل، كانت الشخوص موجودة على خشبة المسرح، لكنها في نفس الوقت غائبة عن الواقع الذي ستتحرك خلاله باحثة عن حضورها، عن وجودها المغيب بالاستلاب والقهر والاغتصاب والتعب والذل.
 
الجدار عبارة عن عازل بين الرذيلة والفضيلة الغائبة، تتحرك في مساحته الفاصلة الراقصة التي تفضح ممارسات السياسيين الذين يستلبون روحها وجسدها، والبنت االتي كان والدها يغتصبها ويربطها في سلاسل داخل البيت" كالكلب الاجرب" على حد وصفها، والام التي تضطرها حالتها االعصابية الى رمي طفلتيها في النهر" هل وجدتم حضن النهر اكثر دفئاً من حضني؟" تسال طفلتيها الغارقتين، والزوجة التي يعرض زوجها جسدها للاخرين مقابل ثمن، الزوج "القواد"، وكذلك الزوج المريض بنزواته الشاذة فتحرقه زوجته في فراشه، والمرأة المتدينة، مع تضبيب الدين او المذهب، والتي تتبادل في مهمتها وشخصيتها مع الراقصة لتفضح حقيقة شخصيتها المتوارية بعباءة الدين.

 

 
شخصيات "جدار" مستلة من الواقع، واقع حقيقي غير مبالغ بأحداثه، قصص لنساء تعرضن لاحداث فجائعية ولم يلتفت لها احد فتحولت الى حكايات عابرة، الام التي رمت ابنتيها في نهر دجلة، الزوجة التي قتلت زوجها في فراش الزوجية، الراقصة التي اغتنت، شقق وسيارات ثمينة من التقرب من هذا السياسي او ذاك صاحب النفوذ، البنت التي اغتصبها والدها وحبلت منه، المتخفي او المتستر بعبائة الدين لتمرير خططه الشريرة او المدنسة بالسكوت عن ما يجري وهي تنادي علناً "حرام.. حرام.. حرام"، ليضيع الحلال في دنس الحرام..قصص حدثت وتحدث في مجتمعنا وضعها العزاوي تحت عدسة مجهره الابداعي وفضحها  امام الجمهور، ضحايا جرائم مسكوت عنها وانفجرت ببوح التفاصيل بصوت عال، فبدت لنا غريبة بينما هي ليست كذلك، بل  تحولت الى مجرد اخبار اعتيادية في الصحف او في الفضائيات تنشر وتبث تماماً مثلما الانواء الجوية، وهذا هو التغريب بعينه، انت تمر امام بناية كل يوم، لكن عندما يسلط الضوء على هذه البناية وتمعن بمشاهدتها معتقدا انك اكتشفتها للتو مع انك تمر قربها ولاكثر من مرة يومياً. هكذا جرى التعامل مع هذه الاحداث فتحولت الى عمل مسرحي استغربنا من تفاصيله.
 
المخرج سنان العزاوي، وحسبما أوضح لرووداو بأنه فضح الهجمة "الكونيالية" من دول ما يسمى بالعالم الاول على العالم الثالث عن طريق بث افكار شاذة ومريضة لتدمير المجتمعات، افكار ومممارسات مثل تبادل الزوجات، ونشر المخدرات، والتحول الجنسي الذي تجسد بشخصية الذي ضيع أو أضاع جنسه بين الرجولة والانوثة فلم يعد يعرف من هو، وصور الاغتصاب، وزنى المحارم، وتشويه كل ما هو نقي وواضح وتحويل الابيض النقي الى اسود كالح.
 
احداث مسرحية الجدار، وعلى مدى 150 دقيقة حاولت ان تجيب ان الاسئلة الاستهلالية للعرض"هل نحن بشر ام حيوانات. هل نحن ملائكة ام شياطين. هل نحن مؤمنين ام قوادين؟"، وخلال تجسيد شخوصها للاحداث اكتشفنا بأننا نتماهى مع شخوصها لنبحث عن الاجوبة في حياتنا اليومية، فالمخرج اوقعنا بذكاء وبقصدية في شباك وقائع احداث العرض وحينما انتبهنا كجمهور بوقوعنا في هذا المطب كان الوقت قد فات والشخوص المجسدة للاحداث قد ارتدت بدلات الاعدام وجرى شنقها، شنقها المجتمع، ذكورية او فحولة الرجل المتأزم، السلطة العاجزة عن وضع الحلول، سواء كانت السلطة السياسية ام الدينية او الاجتماعية، غاب دورنا الذي حرضنا عليه المخرج، كجمهور، عن وضع الحلول او في الاقل تهيئة ذواتنا لممارسة هذا الدور الانساني.
 
لم ولن تكون مهمة احداث او فلسفة اخراج مسرحية "الجدار" محاكمة المجتمع او ادانة شخوصها، بل فضح ما هو مكشوف ومعلوم ومسكوت عنه بتعمد وباتفاق مجتمعي غير معلن لتكميم افواه وافكار الضحايا، الضحايا نحن الذين قبلنا بأن تكمم أفواهنا ونكف عن الصراخ، وتكميم اصوات الضحايا التي بدلا من ان تتتفجر كالبراكين راحت تصرخ بصمت، تحتج بصمت وتعبر عما تعانيه بصمت وهي تحرك افواهها وايديها بحركات (بانتومايمية) ان جاز لي التصرف بتمثيل فن (البانتو مايم) بهذه الطريقة، كما شاهدنا المجموعة وهي تقف امام مكبر الصوت الذي لا يتقل لنا اي صوت، في المشاهد الاخيرة من العرض وقبل هجوم المهرجين وحضورهم الكثيف على خشبة المسرح للسخرية من كل ما يجري ومن الجمهور ومن المجتمع.

 

 
نص مسرحية مثل "الجدار" الذي كتبه حيدر جمعة، كان بحاجة لان يخضع لمختبر المفسر والمبدع الجمالي سنان العزاوي، لكن الاهم من كل هذا هو، اعني المخرج احتاج الى نمط متميز من كادر التمثيل، الممثل المبدع والمتميز يحيى ابراهيم، الذي لعب دور المايسترو لفريق الممثلات، العازفات لهارموني الاحداث. يحيى ابراهيم، بجسده الرجولي الفخم ولحيته وشاربه الكثة جسد دور الشاذ جنسياً، الرجل الذي اضاع فحولته بتاثيرات اجتماعية منذ طفولته، وفي تجسيده لأكثر من شخصية على خشبة المسرح: المشوه جنسياً، والقواد، والزوج المغتصب، كان اكثر من ممثل، عبر عن طاقات تجسيدية او تمثيلية تعبيرية مدهشة فكان ساحراً في متعة الاداء والتجسيد وفي امتاعنا بتنوع الادور، والمتعة هي سر ابداع الممثل او العرض المسرحي كما يؤكد المخرج والكاتب الالماني برتولد بريخت.
 
بالرغم من أن المخرج، سنان العزاوي، يشتغل على اسلوب تقديم الحدث والمجموعة كبطل للعمل، لكنه لم يستطع السيطرة على الابداع التمثيلي لبعض ممثلاته اللواتي جسدن ادوار مختلفة في العرض، نعم نعترف بان مجموعة الممثلات شكلن فريقاً متكاملاً من المبدعات ليكون الفريق بذاته البطل في العرض، لكن تباين الخبرات الادائية وابداعها وتجاربها وضعت الممثلة القديرة آلاء نجم، التي جسدت دور الراقصة، وكان اصعب الادوار من الناحية الادائية، في الدرج الاعلى من التمثيل، لقد سحرتنا بتحولاتها بين الراقصة والمتدينة والمتمردة فشاهدنا اكثر من ممثلة في آن واحد، فكانت في دور الراقصة، وهي تتحدث وتتحرك على طول وعرض المسرح مثلما لاعبة سيرك تطير في الفضاء معلقة بالحبال قافزة بين مشهد ومشهد باداء جمالي رشيق، معبرة عن ما في داخلها من مشاعر بشغل تمثيلي بوجهها لتساعدنا على فهم ما اخفاه النص متعمدا..اضافت النجمة آلاء نجم رصيداً فنياً مضاعفاً لمنجزاتها الابداعية المسرحية ولتؤكد انها في مقدمة نجمات المسرح العراقي.
 
كذلك انفردت الممثلة المبدعة لبوة عرب في تنقلاتها الادائية ووضعتنا في موقف محرج عندما لم نستطع ان نميزها او نتعرف عليها وهي تتحرك برشاقة واضحة مجسدة خبرتها الابداعية على خشبة المسرح. وجاء اداء االممثلة رهام البياتي ليعلن ولادة ممثلة عراقية سيكون لها شأن متميز في التمثيل ويزيح عن خشبة المسرح اسماء انتهت صلاحيتها كممثلات في المستقبل القريب. رهام البياتي جسدت دور البنت التي اغتصبها والدها واجهضت منه ثلاثة اطفال وهي الان حامل ولا تريد الاجهاض بعد ان مات والدها. من الصعب الفرز بين بقية الممثلات لادائهن الابداعي المتفرد  يبشرن بولادة جيل من الممثلات الشابات اللواتي سياخذن مواقعهن المتميزة على خشبة المسرح بعد ان مل الجمهور من تكرار الوجوه القديمة التي اعطت للمسرح جل ابداعهن وآن لهم ان يتقاعدن ويراقبن المشهد المسرحي عن قرب.
 
تلخصت الانتقادات التي وجهت  للمخرج سنان العزاوي ، باعتبار ان زمن العرض، ساعتان ونصف الساعة طويل، وانه كرر جمل ومشاهد مسرحية، وانه جسد التوحش على المسرح بطريقة لا تتناسب مع المجتمع العراقي والعربي عامة.
 
العزاوي مخرج بل مفسر جمالي للنص، قرأ العمل ووضعه في مختبره ليشتغل عليه لأكثر من ستة اشهر، عمل على تفاصيل تحليل النص بدقة واخضعه لاسلوبه ولم يستعين باساليب تقليدية مستوردة او يتستر وراء مصطلحات نقدية تحد من طاقاته الابداعية في تفسير وخلق عرض مسرحي احرج وسيحرج العديد من المخرجين في المسرح العراقي والعربي لعقد قادم من السنوات.
 
لقد انتظر الجمهور المسرحي العراقي والعربي عملاً ساحراً، مدهشاً، ذكياً، ناقش ولا اقول خاطب المتلقي فكرياً وادخله في سجال فلسفي وجمالي تنويري متوهج. قدم عرض خارج القوالب المتعارف عليها وتجاوز بعيداً ما كان يُعتقد انها خطوط حمراء او مناطق محرمة وفتح الابواب امام من كان يتحجج بهذه الاعذار، بل حقق كشفاً كبيراً عندما وجد ان الجمهور تفاعل مع هذه الطروحات وايدها.
 

قدم العزاوي مشاهد تشكيلية متطورة جمالياً، شاهدنا لوحات تشكيلية ومنحوتات سوريالية ومشاهد سينمائية ذكرتنا بالمخرج الايطالي الساحر فيديريكو فيليني، من خلال لقطات (فيديو) اختصر الكثير من التفاصيل التقليدية لينقلنا الى سحر الدراما السنمائية ويساعدنا على التوغل في فهم ما لا يستطيعه المسرح الاعتيادي.
 
لم نشاهد في العرض تكرار ممل فالتكرار في المسرح وحتى في السينما هو التأكيد على تجسيد الفكرة ذاتها، والاطالة في زمن العرض لم تاتي من باب الاستعراض بل لتقديم عمل مسرحي متكامل، فالعروض المسرحية العالمية قد يمتد زمنها لاربع ساعات، او اكثر ذلك ان المشاهد يدفع ثمن التذكرة ويقطع المسافات ليحضر سهرة مسرحية ويشاهد وجبة مسرحية "دسمة" حسب وصف العزازي، عدا ذلك فان الجمهور بقي متابعاً لمشاهدة"الجدار" دون الشعور بالملل على الاطلاق.
 
سنان العزاوي قدم أوبرا مسرحية عراقية وعربية ساحرة، وقد أكون كررت هنا مفردات مثل "السحر وساحر وساحرة" لأنني لا اتوفر على مفردات تصف العمل الا هكذا. وبصدد ما قيل عن عرض التوحش او العنف ليصدم المشاهد بفجيعة الاحداث، استعان سنان العزاوي بمقولة للمخرجة جوان اكالاتيس "الاهتمام بالعنف في المسرح يُعد ظاهرة صحية كونه يحتل جزءاً من حياتنا". 
 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب