فيلم"فيرمير الاخير"..عندما تجعل الحروب الكنوز الفنية اغلى من حياة البشر

12-07-2023
معد فياض
A+ A-

معد فياض

في الحروب وكواليسها، تكاد الاحداث تتشابه، سواء كانت هذه الحروب قد حدثت في اوربا او في آسيا او اي مكان آخر، حيث لا يكون للانسان ثمن ولا اهمية مقابل الاهتمام بالكنوز الفنية والآثار. هذا ما حدث خلال كل الغزوات على مر التاريخ، إذ تستعرض الجيوش القوية والمنتصرة همجيتها ويتحولون الى لصوص بالرغم من ادعائهم الحضارة والتقدم، وهذا ما حصل خلال الاحتلال الاميركي للعراق في 2003 حيث سرقت مئات القطع الآثارية اضافة الى سبائك الذه والمخطوطات التاريخية.

فيلم فيرمير الاخير (The Last Vermeer )، الذي يعرض حاليا على منصة نيتفليكس Netflix، يتناول واحدة من تلك القصص الحقيقية التي حدثت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة. وهو فيلم درامي أميركي صدر عام 2021، من إخراج دان فريدكين، وسيناريو جون أورلوف (تحت الاسم المستعار جيمس ماكجي)، ومارك فيرغوس وهوك أوستبي. ويستند إلى كتاب( The Man Who Made Vermeers ) الرجل الذي صنع فيرمير، من تأليف Jonathan Lopez ، وصدر عام 2008، ويحكي قصة الرسام Han van Meegeren الذي يلعبه في الفيلم الممثل Guy Pearce ، وهو أشهر مزور للاعمال الفنية النادرة، والذي جمع ملايين الدولارات من النازيين خلال احتلالهم لهولندا. وتمثيل كل من:جاي بيرس (فان ميغيرين)، كلايس بانغ (النقيب جوزيف بيلر)، فيكي كريبس ( مينا هولبرج)، رولان مولر (إسبن ديكر)، أوغست ديل (أليكس دي كليركس)، أوليفيا جرانت (كوتي هينينج)، سوزانا دويل (جوهانا) وأدريان سكاربورو (ديرك هانيما) وضع الموسيقى التصويرية يوهان سودركفيست، والفيلم من انتاج شركة  (تريستار بيكتشرز)، وتم تصوير مشاهده ما بين انجلترا وهولندا.

أ

ويعتبر الفنان الهولندي(يوهانِس فيرمير)، والمعروف باسم فيرمير (1632-1675)، هو رسام هولندي في الفترة الباروكية، من أكبر فناني القرن الـ17 الميلادي في أوروبا، ولد في بلدة دلفت الهولندية. وهناك 34 لوحة فقط تُنسب إليه اليوم. واتسعت شهرة فيرمير منذ ذلك الحين ليصبح معروفًا بصفته واحدًا من أعظم الرسامين في العصر الذهبي الهولندي. وكان فيرمير كما رامبرانت تاجرًا ومقتنيًا متعطشًا للأعمال الفنية.

تبدأ احداث فيلم (The Last Vermeer) بمشهد لمجموعة من الجنود الهولنديين وهم يفتشون عربات قطار مركون في احدى المحطات كان من المفترض ان يصل الى برلين قبل نهاية الحرب العالمية الثانية وعندما كانت السلطات النازية تسيطر على غالبية الدول الاوربية وبضمنها هولندا، لنكتشف ان تلك العربية المطلوبة تضم بعض الكنوز والتحف الفنية العائدة الى اليهود الهولنديين.ومن بين آلاف الكنوز المنهوبة التي اكتشفها الحلفاء في آيار 1945 ، كانت هناك لوحة زيتية، غير موثقة يفترض أنها للرسام الهولندي يوهانس فيرمير ، تحفة بعنوان المسيح والزانية في المجموعة الشخصية لجامع الاعمال الفنية النادرة Reichsmarschall Hermann Göring ، ولم يعرف أحد شيئًا عنها. من أين أتت؟ وكيف وضع غورينغ يديه عليها.

يتولى النقيب جوزيف بيلر، مهمة التحقيق في عائدية لوحة المسيح والزانية، ويتتبع خيوط بيعها لضابط الماني، نازي، كبير لصالح هتلر الذي اهتم بجمع الكنوز الفنية الهولندية مقابل دفع ملايين الغيلدرات(عملة هولندية) حتى ينتهي الى الرسام هان فان ميغيرين ، المولود عام 1889 ، وكان رساما مغمورا، هذا ما تكشفه مسيرته الفنية المبكرة من معرضه الشخصي الأول عام 1917 والذي انتهى بنتائج سلبية، قبل ان يتحول إلى تاجر فني ، ورسامًا موهوبًا وحيويًا وانتهازيًا وساخرًا وناقدًا، حقق نجاحات كبيرة عن طريق تزوير اعمال الفنانين الكبار وتاجر بها مع النازيين، وهذه عقوبتها الاعدام، لكنه في النهاية  سيتحول الى بطلاً قومياً.



في حوار بين النقيب والرسام، يسلط ميغيرين الضوء على سوق الفن ، متسائلاً عن سبب قيمة بعض الأعمال الفنية بالملايين والبعض الآخر بضع مئات من الغيلدرات فقط ، ويستفسر من الذي يتخذ هذه القرارات. معلنا حقده على دعاة النقد الفني الذين يسقطون فنان مبدع مثله ويرفعون من شأن آخرين، وهذا هو ابرز سبب لاتجاهه لتزوير اعمال الفنانين الاوربيين لابراز موهبته امام نفسه وللسخرية من النقاد الذين يدعون انهم يستطيعون كشف الاعمال المزيفة والتفريق بينها وبين الاصلية، وأيضا للحصول بسهولة على ملايين الغيلدرات.

تبدو مهمة النقيب بيلر، منذ البدلية معقدة، هو يريد الوصول الى مصادر المال والسلطة وقيادة الخونة الى الاعدام، لا سيما وانه كان احد قادة المقاومة الوطنية، ولا علاقة له بالفن او بالتمييز بين الاعمال المزيفة او الاصلية، وهذا يعني ان هدفه اتهام ميغيرين بالخيانة لبيعه كنوزًا وطنية للنازيين واحالته للمحكمة ومن ثم وقوفه امام احدى فرق الاعدام المنتشرة في شوارع امستردام وقتذاك ، خاصة وان الفيلم يظهر لنا في بعض مشاهده اعدام بعض (الخونة) امام الناس، ويشهد اعدام شخص كان يتعامل معه ميغرين كوسيط لبيع اللوحات للنازيين، وكان النقيب يعول عليه  كشاهد اثبات في القضية.



بسبب التنافس بين محقق من وزارة العدل والنقيب بيلر الذي يساعده احد رفاقه في المقاومة، يتم نقل ميغرين من زنزانته الى عليَه في المركز الفني وهناك تتوفر له الوانه ولوحات القماش التي سيرسم عليها ويسمح له بمفابلة سكرتيرته التي توفر له قناني الويسكي ايضا، ليبدأ بالرسم، لكن لا احد يعرف ما يرسمه، يحدث هذا قبل ان تسيطر وزارة العدل على المركز الفني وتنقل ميغرين الى السجن ثانية تمهيدا لتقديمه الى المحكمة، قبل ان نكتشف انه يرسم نسخة من لوحة اصلية لفيرمير.

وفي تغيير دراميكي مفاجئ، لم يتضح سببه، يتبدل موقف النقيب بيلر الساعي لاثبات خيانة ميغرين واعدامه الى متعاطف معه من اجل انقاذه، هذا بعد طرده من مهمته على خلفية نقل ميغرين الى مكان مترف بدلا من ابقائه في الزنزانة، والعمل كحمال لاكياس الطحين في مركز للتموين. حيث يقوم بتوكيل محامي عجوز ومساعدته للدفاع عن ميغرين الذي سيكشف للنقيب والمحامي بان لوحة المسيح والزانية التي باعها للنازيين مقابل اكثر من مليونين غليدر او دولار هي مزيفة وليست اللوحة الاصلية، وانه هو من رسمها الى جانب لوحات اخرى باعها باسعار خيالية للنازيين. هنا يبدأ فصل آخر من مجريات الاحداث لبرهنة ان اللوحة الاصلية المعروضة في المتحف مزيفة من قبل ميغرين وليست اصلية، وهذا ما ينفيه بشدة مدير المتحف الذي يعد افضل خبير في الكشف عن الاعمال المزيفة.

في المحكمة التي عقدت عام 1947 يخبر ميغرين هيئة المحلفين بان اللوحات التي بيعت للنازيين مزيفة وانه خدعهم مقابل سحب الملايين من الدولاارت منهم، إلا أن المحكمة ظلت غير مقتنعة، ويؤكد الخبراء ان اللوحات اصلية، وفي حديث في مكتب القاضي بين النقيب والقاضي بحضور المدعي العام يقترح بيلر قشط جزء صغير من اللوحة ليبرهن انها مزيفة، لكن القاضي يصر على رفضه ويساله"هل تريدنا ان نخرب كنز فني اصيل"، فيرد النقيب: نعم من اجل حياة انسان، هل العمل الفني اهم من حياة انسان بريء..يحكم القاضي بالاعدام على ميغرين، وخلال فوضى مفتعلة يقوم بيلر برمي أسيد يذيب الالوان من اللوحة الموجودة في المحكمة كدليل اثبات ليظهر تحتها سطح جديد يبرهن انها مزيفة، ومع ذلك ، كانت نتيجة هذا الدليل الاستثنائي قاطعًا لدرجة أن فان ميغيرين أدين بتهمة التزوير  وليس الخيانة ، في نوفمبر 1947. وبصفته الرجل الذي خدع النازيين  فأصبح بطلاً شعبيًا للهولنديين المحررين للتو والمحتاجين الى ابطال شعبيين يحتفون بهم. بعد برائته يلتقي معه النقيب في بيته ويعرض عليه كتاب لرسومه مهدى بخطه الى هتلر تم اكتشافه في مكتبه شخصية للفوهرر. لكن بيلر يقوم باحراقه بدلا من تقديمه الى القضاء. للأسف ، لم يدم مجد ميغرين طويلاً، إذ توفي بنوبة قلبية بعد ستة أسابيع من برائته.



بالرغم من ان فيلم فيرمير الاخير  (The Last Vermeer )، مبني على قصة حقيقية، وهو جدير بالمشاهدة، لكن هناك الكثير من التغييرات التي فرضها السيناريو على القصة الحقيقة والتي كانت اكثر دراماتيكية من الفيلم الذي يظهر فيه ميغرين كشخصية مسترخية ومسيطرة، بينما لم يكن في الاصل هكذا خاصة خلال جلسات محاكمته. كما  تبرز ثمة اسئلة: لماذا تأخر ميغرين في الاعلان عن ان اللوحات التي باعها للنازيين كانت مزورة ومن رسمه؟ وما هو العدل الذي يمكن توقعه من قصة حقيقية عن رجل يُذكر بأنه كاذب ناجح بشكل استثنائي؟ جميع الأفلام ، حتى تلك التي تستند إلى أحداث تاريخية ، هي انعكاس لقضايا الحاضر وفي حوار معها. وكلها تكيف القصة الحقيقية لتضغط وتوضح ما حدث ولماذا هو مهم. ومع ذلك ، يمكننا أن نتساءل عن الطريقة التي ينحرف بها هذا الفيلم عن الحقيقة من أجل شرعيته كعمل فني وكتعبير عن الضرورات الأخلاقية. إلى أي مدى تعتبر هذه التغييرات رخصة درامية مشروعة لإلقاء الضوء بشكل أفضل على الشخصيات والأحداث التاريخية وإلى أي مدى تنتقص منها؟ يتناول فيلم "The Last Vermeer" الكثير من القضايا الشائكة في التاريخ ، والفن في حد ذاته ، وفيما يتعلق بالثقافة والتجارة ، وما هي أنواع التسويات الأخلاقية التي يمكن تبريرها. هذا طموح مثير للإعجاب ، لكن الصراع بين التاريخ والدراما واستكشاف تلك القضايا لا يتم حله دائمًا بنجاح.

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب