معد فياض
على جدران معبد بابلي نقشت الحكمة التي تقول: "أبق حيث الغناء..فالاشرار لا يغنون"، والى هذه الحكمة البابلية المقدسة ينتمي الكورد الذين يدركون اهمية الغناء، الذي يعتبر واحدا من ابرز معالم الحضارة الكوردية، والذي منحهم ميزة البقاء والتحدي والاصرار والفرح..ومن هذا المنطلق أقيم مهرجان السليمانية للموسيقى.
ومع تصاعد ايقاع الموسيقى والاغاني الكوردية والعربية، ارتفع ايقاع جمهور مهرجان السليمانية للموسيقى، حضورا وحماسا وتفاعلا.
اليوم الثالث للمهرجان اُستهل، صباحا، بجلسة حوارية في مبنى الجامعة الاميركية وبحضور كبير، حيث تحدث الفنان العراقي نصير شمة، عن فكرة ماذا تعني الموسيقى في حياتنا، متسلسلا بتاريخ الموسيقى في بلاد ما بين النهرين وكيف انها كانت طقسا دينيا، موضحا بان آلات مثل العود والسنطور والطبلة كانت تستخدم من قبل الكهنة في صلاة االملوك البابليين، وان "كل ما هو ابداعي بدأ من هذه الارض، من العراق".وتحدث قارئ المقام الاذربيجاني عليم قاسموف عن المقامات الموسيقية وتفرعاتها العربية والآذرية وغيرها.
ومع بداية المساء، كان الجمهور يتدفق على المسرح الروماني في متنزه(هواري شار)، الذي سرعان ما أزدحم بالحضور الجماهيري الكبير، جمهور كوردي، في الغالب، اختلط بالجمهور العربي، تجمعهم روح الموسيقى التي لا تحتاج الى لغة او ترجمة او ايضاحات وشروح، فالموسيقى، ومثلما آوضح الفنان نصير شمة لرووداو"هي لغة انسانية يفهمها الجميع، وهي اكثر الوسائل التي تجمع البشرية باسلوب ابداعي حضاري".
دشنت فرقة السليمانية الموسيقية وبمشاركة عدد من المطربين االكورد، منهاج الليلة الثالثة، بمعزوفات مستمدة من تراث كوردستان الغني بايقاعاته وانغامه، وجاءت الاغاني لتؤكد بان الانجاز الموسيقي الابداعي االكوردي هو علامة مميزة وفارقة تنتمي لهوية راسخة لدى الشعب الكوردي وتاريخه، انجاز متوارث من الاجداد ومتداخل مع الراهن ومتجدد من دون ان يؤثر على هارموني هذا التسلسل الابداعي.
كانت معزوفات واغاني فرقة السليمانية الموسيقية ذات ايقاعات اقرب الى الهدوء منها الى الايقاعات السريعة، وتمتع الجمهور بروح طربية عبر عن تفاعله معها بترديد كلمات الاغاني مع المطربين، فالكورد يغنون في افراحهم واحزانهم وشدائدهم وفي عشقهم وفراقهم لمن يعشقون، وفي لقاءاتهم ومعاركهم ووحدتهم، وفي عباداتهم، فالموسيقى والغناء طقس من طقوس دياناتهم الاصلية، الزارادشتية والكاكائية، وهم يغنون عندما يصلون ويتقربون للرب عبر اصواتهم التي تخرج من ارواحهم وليس من حناجرهم، وتردد الجبال والوديان صدى اغانيهم وموسيقاهم، حتى تبدو هذه الجبال، رغم قسوة صخورها، تغني معهم، وهذا ما شعرنا به، كجمهور، في الفعاليات الموسيقية الكوردية.
دفوف هجار زهاوي
بعد الهدوء، الطربي، حضرت الاصوات الغنائية والايقاعات الكوردية السريعة، وما ان أعلن عن فقرة الموسيقار الكوردي المعروف هجار زهاوي، حتى علا التصفيق ترحيبا به، فالجمهور يعرف من هو زهاوي، مؤسس بيت الزهاوي للموسيقى، والذي اقام، وما يزال يقيم على مسرح قلعة أربيل، وبرعاية شبكة رووداو الاعلامية، حفلات موسيقية متنوعة يجمع فيها ايقاعات وآلات موسيقية واصوات كوردية من جميع مناطق كوردستان. ويعتمد زهاوي المتخصص بعزف الآلات الايقاعية الكوردية، على خلفية اكاديمية رصينة، فهو حاصل على بكالوريوس في (الانتوموزيكولوجي) من احدى الجامعات الانجليزية الراقية،كلية سواس (مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية) التابعة لجامعة لندن، وكان بحث تخرجه حول الدبكات الكوردية. ويضع برامجه في الحفلات الموسيقية بذكاء ودراسة واعية لاختيار المقطوعات التي يعزفها ومن يشاركه في العزف والغناء بحيث لا يأتي اي كونسرت له مشابها لما سبقه ولما سيأتي، وهذه ميزة يتمتع بها خبراء الموسيقى الذين يدرسون جمهورهم بعناية.
بدأ منهاج حفلة هجار زهاوي بدخول فرقة الجاز، ايقاعات(درامز) وقيثار سولو كهربائي، واورغن(كي بورك) إذ شدت معزوفاتها الجمهور، ليفاجا، زهاوي، الحضور بدخوله المتسارع وهو يعزف على الدف الكوردي الذي يميزه قبل ان يقدم باقي اعضاء الفرقة من موسيقيين لعبوا على آلاتهم وكانهم يشكلون فرقة سمفونية متكاملة بالرغم من قلة عددهم ومحدودية آلاتهم الموسيقية لكن تاثيرهم كان كبيرا ومؤثر وعميقا في ذائقة المتلقين.
وضمن مفاجآته غير المتوقعة، قدم هجار زهاوي اربعة مطربين شباب كورد، من كركوك وحلبجة ودهوك وهولير، ادو منفردين، مقامات واغاني تعكس هوية التراث الموسيقي والغنائي لمجتمعات محافظاتهم، وعلى الايقاعات المتصاعدة لدفوف زهاوي وفرقته، وكان الالاف من الحاضرين منسجمين للغاية مع هذه الاجواء. فرقة زهاوي قدمت منهاجها على مدى نصف ساعة لكنها تركت انطباعا زمنيا وكان عرضهم امتد لاكثر من ساعة، وفي ذلك كان الكثير من الذكاء والخبرة والابداع، وتلك صفات يتمتع بها هجار زهاوي حصريا.
تكات السورية والطرب الاصيل
خاتمة منهاج اليوم الثالث لمهرجان السليمانية للموسيقى كانت عربية طربية بامتياز، وسورية على وجه الخصوص، مع فرقة تكات، التي ابقت الجمهور على مقاعده حتى نهاية الليلة.
تأسست فرقة تكات عام 2018، وسرعان ما حقق أعضاء الفرقة الخمسة: صفاء جبر وعلاء فنديس وأسامة الماغوط ونور قدور وخطار صليبي، نجاحا كبيرا في تقديم أشكال فريدة من نوعها للأغاني التراثية من سوريا والشام والعالم العربي. وامتدت سمعتهم على سعة خارطة العالم العربي ومن ثم الى اوربا حيث قدموا عروضا مميزة، فهم عرفوا واعتمادا على خبراتهم ماذا يريد المتلقي من اغاني، وقدموها باساليبهم اللحنية والادائية المتميزة. بكل بساطة اعادوا صياغة الاغاني التراثية الحلبية والحموية والشامية بتوزيع يلائم ذائقة المستمع المعاصر دون المساس بروح التراث، بل احترموا تراثهم الموسيقي وعلوا من شانه وجعلوه مسموعا ومتداولا ورائعا. رافق ذلك البساطة في اختيار الالات الموسيقية واسلوب التواصل مع جمهورهم من خلال جلساتهم التي تشعر المتلقي وكانهم بينهم وليس بعيدا عنهم.
جمهور المهرجان، تفاعل مع اغاني فرقة تكات وردد كلماتها الهادئة والتي جاءت بمثابة حكاية من حكايات شهرزاد التي سكتت، في نهاية عرض تكات، عن الكلام المباح قبل ان يحل الصباح.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً