معد فياض
عندما يريد الفن أو الأدب التصدي لظاهرة أو خرافة تتعلق بالدين أو المذهب أو أي من المعتقدات الشعبية في عالمنا العربي، فإن الفنان أو الكاتب أو المخرج، بالتأكيد يلجأ إلى الكوميديا والسخرية، أو الكوميديا المرة ليعمل على تضخيم الظاهرة وعرضها في إطار مجسم كي يسخر منها المشاهد وفي ذلك معالجة إبداعية للظواهر الشاذة في المجتمعات العربية خاصة والشرقية والافريقية عامة.
هذا ما فعله بالضبط المخرج المغربي علاء الدين الجم في كتابته واخراجه لفيلم "سيد المجهول"، The Unknown Saint، الذي لعب بطولته كل من (يونس بواب، صالح بنصالح، أنس الباز، حسن بديدا). ويعرض حالياً على شاشة نيتفليكس.
قصة الفيلم بسيطة للغاية ولا تتحمل أي تعقيد أو تحليل نقدي، وهي مبنية على مفارقة ساخرة أو نكتة سوداء، ويعد من الافلام الكوميدية رغم قتامة ظروف حياة شخوصه الصعبة.
يستهل فيلم "سيد المجهول" بمشاهد هروب اللص أمين (أمين بواب) في سيارة متهالكة تتوقف تماماً فوق تل في منطقة نائية تماماً في الصحراء خارج مدينة مغربية، حيث يتعمد المخرج عدم تسمية أية مدينة ليوحي بأن هذا الحدث ممكن ان يكون في أية منطقة من مناطق المغرب، حيث يقول الجم "لا توجد خصوصية للمكان في الفيلم لأن هذا النوع من الأفكار منتشر في معظم المناطق القاحلة في المغرب"، وسنكتشف عملياً أن مثل هذه الخرافات أو الظواهر موجودة في غالبية بلداننا العربية أو الشرق أوسطية.
يدفن اللص حقيبة الأموال التي سرقها فوق التل وقرب شجرة جرداء، قبل أن تلقي الشرطة القبض عليه، ويتعمد تحويل المخبأ إلى ما يشبه القبر كي لا يقترب منه أحد وينبش الحفرة، ومن ثم سوف يستطيع معرفة مخبأ الاموال المسروقة فيما بعد.
بعد خروجه من السجن، لم تحدد سنوات سجنه، يعود اللص إلى مخبأ الحقيبة ليصدم أن القبر، المخبأ، قد تحول إلى مزار يحمل اسم "سيد المجهول" بعد ان بنيت فوقه قبة فيها بوابة مغلقة، وهناك امرأة متخصصة بعلاج السيدات المتعبات بواسطة زيت أو ماء من معجزات السيد المجهول، وايضاً هناك بائع متجوّل لمستلزمات زيارة الضريح أو المزار، ومساء يحرص حارس مع كلب شرس على منع وصول المخربين أو اللصوص إلى المزار.
يلتفت اللص فيما حوله فيكتشف أن ثمة قرية بنيت من الطين قريباً من موقع المزار في أسفل التل واطلق عليها اسم "سيد المجهول"، حيث ترك بعض سكان القرى بيوتهم بسبب القحط وشحة الأمطار وسكنوا قرب "سيد المجهول" للتبرك بمعجزاته طلباً للرزق والمطر، ولا بد من قيام مصالح اقتصادية لخدمة السكان والزوار حيث وجود الحلاق والفندق، وهناك سكان وعلاقات اجتماعية تتقاطع وتجتمع مصالحهم بسبب وجود "سيد المجهول"، وتعلّق الناس بالمكان وهجرانهم لقريتهم القديمة للاقتراب من الضريح، وذلك للاستفادة من بركَته المعنوية والمادية، فقدوم أناس من أمكنة بعيدة للزيارة يُحقق ازدهاراً وحركة من بيع وشراء لتعاويذ ولمشروبات مُرطِبة، إلى بناء أماكن سَكَن وغرف للإقامة وفنادق.
الاحداث العبثية للفيلم تمضي وفق ثلاث مسارات درامية ساخرة بالتوازي، أولها اللص، أمين، الذي يقوم بمحاولات حثيثة لاقتحام المكان لاسترداد حقيبة مسروقاته من الضريح المزيف إذ لم يعد هذا بالشيء السهل، فقوة تأثير المعتقدات تدفع الجميع حتى السارقين للخشية، لكن بناء الفيلم يتشعب نحو شخصيات أخرى قروية، ويرصد من خلالها خليطا من مواقف تتنوع بين هزل ومأساة، وتتمحور حول العلاقة مع المعتقد وتحولات مجتمع القرويين الصغير وحياتهم الرتيبة القاسية ومعاناتهم من الجفاف والفقر والجهل.
والمسار الثاني يتعلق بشخصية الطبيب (أنس الباز) الذي ترسله الدولة، وكان قد وصل تواً إلى مستوصف صحي، وهو طبيب شاب لا يؤمن مع مساعده الممرض العجوز (حسن بديدة)، أمام خمول المكان وأهله، ورفض الرجال القدوم إليه للعلاج، فهم يولون هذه المهمة للسيد المجهول بدلاً من وصفات الطبيب التي تقتصر على توزيع دواء واحد عبارة عن حبوب لكل المراجعين، حسب نصيحة الممرض الذي خبر المكان والناس. وفي أسلوب ساخر للغاية يضطر الطبيب لاجراء عملية جراحية لكلب حارس المزار، ثم يجد طابوراً من أصحاب الحيوانات منتظرين لعلاج حيواناتهم دون أن يمانع الطبيب في ذلك. وهناك أيضاً حلّاق القرية الذي أضاف وجوده كوميديا على المكان بالنظر لزبائنه وأسلوبه.
اما المسار الثالث فيتلخص بوجود شاب مع والده، إبراهيم، المتعب بسبب عدم سقوط المطر والحاجة، بينما ابنه الشاب يحثه على ترك القرية والذهاب معه للبحث عن العمل في المدينة، والشاب والاب لا يعتقدان بالسيد المجهول، إذ يحاول الأب مرة تهديم الضريح بمعوله، بينما ينجح الابن بتفجير الضريح بعد وفاة والده ليعثر صدفة على حقيبة الاموال المسروقة ويبني ضريحاً باسم والده "سيدي سيد ابراهيم" الذي هو الآخر يتحول إلى مزار، بينما لم يفلح اللص بالعثور على الاموال التي سرقها وامضى سنوات من عمره في السجن بسببها.
فيلم "سيد المجهول" يستعرض مصائر شخصيات لا رابط يجمع بينها وبين الشخصية الرئيسية سوى المكان وصاحبه (الولي)، شخصيات تتقاطع مصائرها في مكان يرمز لعبثية الحياة، إنها تنويع للسرد وإغناء له من حيث إبراز علاقتها بالمحيط، كما تبرز أسلوبين للعيش والتفكير، واحد تحكمه عادات وتقاليد وعقليات جامدة جمود الحركة في صحراء كهذه مُمثَل بسكان القرية، وآخر أكثر عصرية مُمثَل بالطبيب والسارق ومساعده “الدماغ” (صلاح بن صلاح). والجدير هنا الاشادة بالاداء المتميز لابطال الفيلم الذين شكلوا هارموني متجانس رغم تناقض ادوارهم.
كاتب قصة وسيناريو ومخرج الفيلم، علاء الجم، قال عن فلسفته في "سيد المجهول" لقد "اخترت القالب الكوميدي لأني أردت أن تضحك الناس على تلك الأفكار الرجعية وتسخر منها فتدرك مدى سخافتها"، مضيفاً: "أردت أن يكون الفيلم أشبه بالكورال. مجموعة من الشخصيات موجودة في نفس المنطقة وتتقاطع مصائرهم بسبب هذا الكيان المزيف". ولعل من اصعب أساليب المعالجة السينمائية لمثل هذه القصص هو الاسلوب الهزلي الذي يوحي بالجدية.
كاتب ومخرج الفيلم، علاء الدين الجم، المولود في الرباط ودرس السينما في مراكش، ثم أكمل دراساته السينمائية العليا في بروكسل ببلجيكا، والذي انجز عدة أفلام قصيرة، منها "أسماك الصحراء" عام 2015، الذي نال جائزة أفضل فيلم قصير، وجائزة النقاد والسيناريو في مهرجان الفيلم الوطني في المغرب، كما عُرض في عدة مهرجانات دولية، تمكن في فيلمه الروائي الطويل "سيد المجهول" من إدارة المسارات وتقاطعاتها وتوجيهها بذكاء إلى حيث يريد.
فيلم "سيد المجهول" كان قد مثّل المغرب في المسابقة الرسمية للدورة الـ18 في مهرجان مراكش الدولي للفيلم عام 2019، كما عُرض في افتتاح أسبوع النقاد في الدورة الـ58 لمهرجان كان عام 2019.
تعليقات
علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر
أضف تعليقاً